ظـاهـرة الـتـسـول فـي مـجـتـمـعـنـا


عن الزبير بن العوام ]، عن النبي [ قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أومنعوه» (البخاري).
فالمتأمل في الحديث النبوي الشريف، يرى أن مهنة الاحتطاب على ما فيها من مشقة، وما يحوطها من نظرات الازدراء، وما يرجى منها من ربح ضئيل، خير من البطالة وتكفف الناس، ورغم هذا كله فالرسول [، لم يكتف بهذا البيان النظري، فضرب للناس مثلا بنفسه وبالرسل الكرام من قبله، فعن أبي هريرة ] عن النبي [ قال : «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه : وأنت، قال «نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (البخاري).
وقال أيضا [ «ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده» (البخاري).
وحسبنا ما ذكره الحاكم عن ابن عباس ] أن داود كان زرادا يصنع الزرد والدروع، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا وصالح تاجرا، وموسى راعيا.
ومما يروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: «يا بني استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته. وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به» (مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص : 82).
ولا عجب كذلك أننا رأينا أنّ أئمة الإسلام وكبار علمائه الذين خلدتهم آثارهم ومؤلفاتهم العلمية والأدبية، لم ينسبوا إلى آبائهم وأجدادهم وقبائلهم، ولكنهم نسبوا إلى صناعات وحرف كانوا يعيشون منها، ولم يجدوا هم ولا مجتمعهم على مر العصور أي غضاضة أو مهانة في الانتساب إلى تلك الصناعات والحرف، ولا زلنا إلى اليوم نقرأ: البزاز، والقفال، والزجاج، والخراز، والجصاص، والصبان، والخياط، وغيرهم من الفقهاء والمؤلفين، والعلماء المتبحرين في مختلف جوانب الثقافة الإسلامية العربية.
وفي عصرنا اليوم نرى صنفا من الناس مع قدرتهم على الكسب يدعون العمل ولا يسعون في مناكب الأرض، اعتمادا على ما يأخذونه من الصدقات والتبرعات التي تعطى لهم من غيرهم بغير تعب ولا عناء، وفي سبيل ذلك يستبيحون مسألة الغير، ومد أيديهم إليهم، على ما فيها من ذل النفس، وإراقة ماء الوجه، مع أنهم أقوياء ذوو مقدرة على الكسب، وهؤلاء هم الذين يشير إليهم الرسول [ بقوله: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب»، وقوله [ : «ولا لذي مرة سوي» فالمرة هو القوي، والسوي السليم الأعضاء، وبهذا لم يجعل الرسول [ للبطال الكسول حقا من صدقات المسلمين وذلك ليدفع القادرين إلى العمل والكسب الحلال.
الإسلام قد بالغ في النهي عن مساءلة الناس، والتحذير منها. عن ابن عمر ] أن رسول الله [ قال : «ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مزعة لحم» (متفق عليه). وعن أبي هريرة ] عن النبي [ قال : «من سأل الناس أموالهم تكثرا. فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر» (مسلم). أي أنه يسأل الناس لتكثير ماله، لا لضرورة الحاجة إلى السؤال.
وعن ابن عمر ] أن النبي [ قال : وهو على المنبر وقد ذكر الصدقة والتعفف والمسألة «اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا المنفقة واليد السفلى السائلة» (مسلم).
الرسول [ يرى في مهنة الاحتطاب خيرا من البطالة التي يركن إليها الكسالى من الناس الذين يركنون إلى الراحة وعدم تكلف النفس أية مشقة للعمل، فيجدون في مساءلة الناس أسهل الطرق للحصول على المال.
وللتسول صور وأساليب شتى، لا يستطيع معها الإنسان أن يميز بين المحتاج وغير المحتاج.
روى أصحاب السنن عن أنس ] أن رجلا من الأنصار جاء النبي [ يسأله، أي يطلب منه مالا، فقال له [ : «أفي بيتك شيء؟» قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب (الحلس: كساء يوضع على ظهر الدابة أو يفرض للجلوس عليه. القعب: الإناء نشرب فيه الماء)، قال: «ائتني بهما» فأتاه بهما، فأخذهما الرسول [ قال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: «من يزيد على درهم؟» مرتين أو ثلاثا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: «اشتر بأحدهما طعاما لأهلك واشتر بالآخر قدوما، فأتني به، فشد فيه الرسول [ عودا بيده، ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما. فقال رسول الله [ : «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة».
إن المسألة لا تصح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع (الفقر المدقع: الفقر الشديد، الغرم المفظع: الدين الثقيل. الدم الموجع: الدية الكبيرة).
إن هذا الحديث قد احتوى في مضمونه خطوات سبق بها الإسلام كل النظم التي لم تعرفها الإنسانية إلا بعد قرون طويلة، ذلك لأنه لم يعالج مشكلة السائل المحتاج بالمعونة المادية الوقتية، كما يخطر على بال الكثيرين، ولم يعالجها بالوعظ المجرد والتنفير من المسألة كما يصنع البعض، ولكنه أخذ بيده في حل مشكلته بنفسه، ووضع لها العلاج الناجع، فعلمه الرسول [ أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، فلا يلجأ إلى السؤال وعنده شيء يستطيع أن ينتفع به في القيام بعمل يغنيه.
إن ما نشاهده ـ يوميا ـ في طرقاتنا، وأمام أبواب المساجد، وحتى بداخلها أحيانا من المتسولين رجالا ونساء وأطفالا، ليسوا كلهم، حسب هيئاتهم ـ محتاجين بل ثبت عدم احتياج بعضهم، وإنما اتخذوا ذلك حرفة وعملا سهلا وتكثرا، ويظهرون ضعفهم وفقرهم بكلام حزين وبأساليب متنوعة مصطنعة لاستعطاف الناس وتقديم المساعدة لهم، وقد نبهنا الرسول [ لمثل هؤلاء فقال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» (البخاري).
إن ظاهرة التسول قد استفحلت في مجتمعنا، فهي تسيء لديننا ووطننا ومواطنينا، فيجب علينا جميعا أن نعمل بجد وحزم على القضاء على هذه الظاهرة، بتوفير الحاجات الضرورية لهؤلاء المحتاجين فعلا، وكفهم عن السؤال، وذلك بتفعيل فريضة الزكاة التي لها دور كبير وفعال في صرف الفقراء والمساكين عن مساءلة الناس.
قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} (المعارج: 24-25).
ولا بد من إلحاقهم إذا ثبت عجزهم بدور الجمعيات الخيرية ومعاقبة من يثبت عليه أنه في غنى عن هذا العمل المشين، تطهيرا لمجتمعنا من الاتكالية والكسل وإظهار العجز والفقر. قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} (البقرة : 272).

د .أحمد حسني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>