حمد الله تعالى وذكره: موجبات ومجالات ومقتضيات


قال الله : }فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِn 425 9لَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ{( الروم:17، 23)
تقديم:
هذه آيات مباركات من مطلع سورة الروم، وهي سورة مكية بخصائصها وأهدافها، تعالج قضية الإيمان بالله ربا وبرسالته وبمسائل البعث والحساب والجزاء…
جاءت هذه الآيات بعد الحديث عن النبوءة الصادقة الخاصة بظهور الروم على أهل فارس الذين كانت لهم الغلبة سابقا فحز ذلك في قلوب المؤمنين. فالروم كانوا يمثلون راية الدين والإيمان، وفارس يمثلون راية الوثنية والشرك (المجوسية) فكانت هذه الآيات الأولى تتضمن بشارة لأهل الإيمان بغلبة الروم (أهل الكتاب) ونصرهم على أهل فارس الوثنيين، وفي هذا ما فيه من تقرير للحقيقة الكلية الواردة ضمن هذه الآيات نفسها لله الأمر من قبل ومن بعد.
فقضية النصر والهزيمة وظهور الدول وأفولها، وقوتها وضعفها… إنما هو شأن إلهي كسائر ما يقع في هذا الكون من أحداث وأحوال، خاضع للمشيئة والإرادة الإلهية المطلقة، وَفْقَ الحكمة الإلهية المطلقة. فهو وحده سبحانه صاحب القرار الأول والنهائي، ولا يُقضى شيء في الأرض حتى يُقضى في السماء، وليس للبشر أمام ذلك إلا التسليم والاستسلام لأقدار الله المرسومة، وإرجاع الأمور كلها له سبحانه. ولايعني هذا إعفاؤهم من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي قد تترتب عنها النتائج في عالم الشهادة والواقع. فالتوكل في الدين مقيد بالأسباب وتفويض الأمر بعد ذلك إلى الله تعالى وفق القاعدة المشهورة الواردة في حديث رسول الله [ للأعرابي الذي أراد أن يصلي في المسجد ويترك دابته طليقة بغير عقال، قائلا: «توكلت على الله» فقال له: «اعقلها وتوكل على الله»(حديث رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي وغيرهم).
بيان عام للآيات:
تبتدئ هذه الآيات المباركات بالدعوة إلى تسبيح الله جل جلاله وحمده، تسبيحا وحمدا يستغرق كل زمان، من إمساء وإصباح وعشي وإظهار، كما يتقصى كل مكان في ملأ آفاق السماوات والأرض، فيدخل في هذا ما هو واجب على العباد من الصلوات الخمس، وما هو مستحب كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وما يقترن بها من النوافل. جاء في نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للأمام البقاعي: (...أي سبحوه بالخضوع له بالصلاة في وقت المساء بصلاة العصر والمغرب، وفي وقت الصباح بالصبح، وفي العشي بالعشاء، وفي الإظهار بالظهر). (ج 5/610 دار الكتب العلمية بيروت).
والأوقات التي اختارها الله سبحانه وتعالى للصلوات المفروضة خاصة هي أفضل الأوقات. قال السعدي: (فالتسبيح والتحميد فيها، أفضل من غيرها، بل العبادة، وإن لم تشتمل على قوله «سبحان الله» فإن الإخلاص فيها تنزيه لله بالفعل أن يكون له شريك في العبادة، أو أن يستحق أحد من الخلق ما يستحقه من الإخلاص والإنابة). (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. ص849 مؤسسة الريان بيروت).
بعد هذه الدعوة للارتباط بالله عز وجل والإكثار من ذكره تسبيحا وتحميدا تأتي الآيات التي تعرف بعظمة هذا الخالق وقدرته وحكمته وبديع صنعه في خلقه سبحانه وسعة رحمته وإحسانه، هذا الذي ينبغي أن يشغل ذكره كل لسان و يملأ تسبيحه وحمده كل زمان ومكان: ﴿يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
إنها عملية دائبة لا تكف ولا تتوقف لحظة واحدة. في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي، كما يخرج النبات الحي من الأرض الميتة والسنبلة من الحبة والشجرة من النواة، ثم تجف النبتة والشجرة حين تستوفي أجلها وتتحول إلى هشيم أو حطام، وقد يختزن هذا حبة جديدة متهيئة للحياة والإنبات وهكذا يحدث في عالم الإنسان والحيوان، النطفة تصير جنينا ثم خلقا كاملا ثم جثة ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتتحول إلى مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات، والحيوان والإنسان. إنها دورة دائبة عجيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله. (في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب. ج5/2763 دار الشروق).
فإذا كان هذا الأمر عاديا واقعيا مشاهدا يحدث أمامنا في كل زمان ومكان فلماذا الغرابة من البعث و النشور للحساب والجزاء... ألا يكون حقا وصدقا ﴿وكذلك تخرجون. وفي الآية إيماء إلى أن الله تعالى يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أئمة الكفر... (التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور م 8/ج21 /68، دار سحنون- تونس).
بعد هذا تشرع الآيات في التذكير والتنبيه ولفت النظر إلى عدد من الآيات الدالة على مدى قدرته تعالى وكمال عظم
ته، ونفوذ مشيئته وبديع صنعه وتدبيره وسعة رحمته وإحسانه، كيف وأنه المنفرد سبحانه بالربوبية والألوهية في هذا الوجود الممتد ﴿ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون فالذي خلقكم من هذا الأصل البعيد التراب أو الطين ﴿من سلالة من طين﴾ثم بثكم في أقطار الأرض وأرجائها -وهذه معجزة خارقة دالة على كمال القدرة- أليس هو الإله المعبود والرب المحمود والرحيم الودود وهو القادر على أن يعيدكم بالبعث بعد الموت. أليس في هذه النقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر فردا وجماعة ما يثير الـتأمل في صنع الله تعالى ويستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله سبحانه، ويحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم!؟ بلى، و لكن أكثر الناس عن هذه البصائر غافلون.
بعد هذا تأتي آية من آيات الله العجيبة التي قلما ننتبه إليها وذلك في قوله تعالى: ﴿{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}،﴾إنها آية، وما أعظمها من آية، في الاجتماع البشري تدل على كمال قدرته سبحانه ورحمته وحكمته وعنايته بعباده. ومن يقدر غيره جل في علاه على خلق هذين الجنسين الزوجين على هذا النحو الذي يجعل كلا منهما موافقا للآخر ملبيا لحاجاته الفطرية، النفسية والعقلية والجسدية، وتحصل بينهما الراحة والطمأنينة والاستقرار، وتشيع في حياتهما المودة والرحمة، ويتهيأ الظرف المناسب من ائتلافهما وامتزاجهما لإنشاء حياة جديدة، وتربية جيل جديد يشكل استمرارا للوجود البشري إلى ما شاء الله تعالى. ألا تستحق هذه العلاقة الزوجية التي هي قمة في التناسب والتشاكل للقيام بوظيفتها السامية هاته؟!، التأمل والتفكر الذي ي
ثمر الإجلال والتعظيم والإكبار للخالق المبدع، فما أعظم شأنه سبحانه، وما أقبح غفلة هذا الإنسان عن هذا الشأن العظيم.
آية أخرى تبرز بعد هذا دالة أيضا على عظمة سلطان الله جل جلاله وكمال اقتداره، جمعت بين ما هو كوني وما هو بشري على وجه أخص:﴿ومن آياته خلق السماوات والارض و اختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين ﴾فماذا نعرف عن هذا الخلق العظيم الضخم الهائل الدقيق، خلق السماوات والارض؟ بل ماذا تمثل هذه الأرض التي نعيش فوقها بدولها وقاراتها أمام هذا الحشد الذي لا يعد ولا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات؟ ألا تكاد تكون مجرد ذرة تافهة لا وزن لها ولا ظل!؟ ومع هذه العظمة والضخامة تسير كل هذه الكائنات في تناسق عجيب دون خلل أو تصادم أو اضطراب.
بعد الإشارة إلى هذه الآية العظمى في خلق السماوات والأرض يأتي التنبيه إلى عجيب صنع الله في بني آدم من حيث اختلاف الألسنة والألوان. فكم هي لغات العالم عبر التاريخ البشري إلى الآن؟ وكم هي ألوان بني آدم؟ وكم هي متباينة صورهم وأصواتهم مع أن أصلهم واحد ومخارج الحروف عندهم واحدة؟
ثم يسوق القرآن الكريم على نفس النمط آية أخرى تجمع بين ما هو كوني وما هو بشري فتربط بين ظاهرة الليل والنهار، وظاهرة الرغبة في تلبية الحاجات الضرورية للبشر في النوم وطلب الرزق. فاقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون الليل ظرفا مناسبا يلبي بسكونه وظلامه الحاجة إلى النوم والراحة، ويكون النهار ظرفا مناسبا يلبي بحركته وضيائه الحاجة إلى ابتغاء رزق الله والسعي من أجله. قال تعالى: ﴿{ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} وفي آية أخرى تشبهها: ﴿{ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله لعلكم تشكرون}. فلا شك أن بين هذه الظواهر الكونية والظواهر البشرية والاجتماعية علاقة وطيدة، لأنها كلها من خلق الواحد الأحد سبحانه وتدبير الحكيم الخبير. ومهما اكتشف الإنسان من أسرار الكون وتعرف على بعض قوانينه ودقائقه باستعمال أحدث الوسائل وأدقها تبرز أمامه لافتةٌ كُتب عليها: ﴿{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}. وليس أمام ذوي العلم والفهم والبصيرة إلا أن يقفوا معظمين ومكبرين، خاضعين مستسلمين، مرددين في خشية وخشوع: {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين}. وأي ظلم أعظم من ظلم العبد لربه وجهله بحقوقه عليه وغفلته عنه مع كونه في قبضته سبحانه ولا غنى للعبد عنه بأي وجه من الوجوه.
فهل بعد تدبر مثل هذه الآيات المبصرات في هذا الكتاب المسطور، والتفكر فيما تنبه إليه من الحقائق الكونية والظواهر البشرية المعيشة في هذا الواقع المنظور، يحق لعبد أن يفتر لسانه عن التسبيح والتحميد والتمجيد للباري عز وجل؟
ومضات من الهدى المنهاجي في الآيات:
الزمان والمكان وعاءان للتسبيح والتحميد فاحرص أن تملأهما بذلك. فمما يروى عن الحسن البصري قوله:«ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة».
لن تتقرب إلى الله عز وجل بأفضل من الفرائض فحافظ عليها :«من صلى البردين دخل الجنة»(رواه الشيخان).وفي حديث «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» يعني الفجر والعصر. (رواه مسلم وأحمد وغيرهما).
واجتهد ما استطعت في النوافل لتكسب محبة الله «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه...»(من حديث رواه البخاري).
الحياة الحقيقية حياة القلوب والأرواح لا حياة الأجساد والأشباح فاجتهد على إحياء قلبك وروحك بذكر الله جل جلاله. «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» (رواه البخاري).
العلاقة الزوجية من آيات الله تعالى فلا يمكن أن يسعد بيت وتعمه السكينة والمودة والرحمة إلا بالاجتماع على طاعة الله وأن يكون عامرا وحيا بذكر الله. ففي رواية لمسلم :«مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت». وروى عبد الله بن عمر ] عن النبي [ قال:«اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا». (متفق عليه). ولايخفى منهم سكان القبور.
مما يغفل عنه كثيرا على أهميته في ذكر الله الأدعية المأثورة، الواردة عن رسول الله [ في بعض الأعمال والأوقات كأدعية الأكل والشرب والنوم واللباس ودخول المسجد والبيت وغير ذلك؛ فاحرص عليها، وعوِّد أهل بيتك عليها في حينها.
إن خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان معجزات حقا نعيشها في كل لحظة، دالة على عظمة الخالق وبديع صنعه في خلقه، فحذاري أن يتبلد حسك بطول الألفة والتكرار. الكون مدرسة لتعلم الإيمان فلا تلق نظرتك عبثا؛ بل حاول أن تستخلص من كل شيء فكرة وعبرة تقربك إلى الله الجليل الرحيم فرب «تفكر ساعة (في وعي) خير من عبادة كذا وكذا (في غفلة)».
نومك يا أخي بالليل للراحة، وحركتك بالنهار لأجل الرزق من آيات الله اللطيف الخبير أيضا، فحاول أن يكون ذلك في طاعة الله عز وجل ووفق ما شرعه الله سبحانه، وأخلص نيتك لربك كي تؤجر على نومك ويقظتك. قال بعض العارفين: (إني لأحتسب على الله نومتي كما أحتسب عليه قومتي).
الكون كله من أصغر شيء فيه إلى أكبره، من الذرة الى المجرة، يسبح بحمد خالقه ومدبر شأنه، فلاتكن أنت يا أخي نشازا في نظامه.
ما طلب منا الإكثار من شيء مثل طلب الإكثار من الذكر لمنزلته وفضله عند الله «واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» (الجمعة، 10). وفي الحديث عن رسول الله [ﷺقال: «سبق المفردون»، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» (رواه مسلم ).
هذه أيها الأخ الفاضل آيات محفزات ومرغبات في أن يكون لسانك رطبا بذكر الله العزيز الغفور؛ فإذا لم تتأثر نفسك بمثل هذا وأبت إلا الخمول والركون إلى الدنيا والرضى بعيش الغفلة، فاحذر أن تكون ممن ورد فيهم﴿{ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}(طه / 122، 123، 124).

والله ولي التوفيق

د. محمد محتريم

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>