مع سيرة رسول الله – نحـو تحديد منهجي لعلم السيرة النبوية الكاملة (*)


5. الدراسات النوعية في السيرة النبوية(الأخيرة)
نأتي في هذه الحلقة على ختام ما كتبه الدكتور محمد يسري في تصوره لبناء منهجي لعلم السيرة النبوية، تناول فيه تعريف علم السيرة النبوية وتحديد موضوعه، وأسماءه، ومسألة الاستقلال وعلاقته بعلوم شرعية أخرى كالتفسير والحديث والتاريخ واستمداده. وفي هذه الحلقة يعرض لأهم الدراسات المتميزة التي أنجزت في تاريخ هذا العلم عرضا وتقويما، ثم ينتهي إلى تقديم خلاصات عامة في هذ الموضوع .
في كتابة السيرة النبوية مناهِجُ متعددةٌ، أشهرها: ما يُسَمَّى بالمنهجِ التاريخيِّ الذي يَكتبُ السيرةَ بحسب ترتيبِ أحداثِها ترتيبًا تاريخيًّا، فَتَذْكُرُ حوادثَ السنة الأولى، ثم الثانية.. وهكذا حتى السنة الحاديةَ عشرةَ من الهجرة، بيد أن هناك دراساتٍ تحليليةً في السيرة النبوية لا تَكتفِي بسرد الأحداث، وإنما تُعنَى باستنباطِ دروسٍ وعبرٍ وفوائدَ متعددةٍ؛ فتارةً تُساقُ فوائدُ دعويةٌ وتربويةٌ، وأخرَى فوائدُ سياسيةٌ وحركيةٌ، وثالثةٌ تشريعيةٌ وسننيةٌ!
< ككتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (751هـ).
وفي كتابه هذا تجتمعُ فوائدُ تُثِيرُ الاقتداءَ والاهتداءَ بسنةِ وسيرةِ سَيِّدِ الأنامِ ♀، وفيه استنباطٌ للأحكام التشريعية لا سيما الجهادية.
والسيرة زاخرة بأمثلةٍ كثيرةٍ، وتطبيقاتٍ حيةٍ صالحةٍ للاستنباطِ منها، وللتفريعِ عليها، وتنبيهٍ ظاهرٍ على رعايةِ المآلاتِ، ومراعاةِ نتائجِ التصرفاتِ، وتحقيقٍ للمقاصدِ الشرعيةِ والغاياتِ الكليةِ للشريعة الإسلامية.
< وقد صدرَتْ كُتُبٌ- في العصر الحديث- تُبرز رُؤًى تحليليةً منهجيةً(1) في الدعوة والتربية، والسياسة والجهاد، وغيرها؛ كسلسلة الشيخ منير الغضبان، بعنوانِ: المنهجِ الحركيِّ في السيرة النبوية، وما يتبعها مِن كُتُبٍ في بقية المجالات السياسيةِ، والاجتماعية، والتربوية وغيرِها.
< وهناك دراساتٌ نوعيةٌ قدَّمَتْ دراساتٍ موضوعيةً في السيرة النبوية، وذلك بجمعِ شتاتِ وقائع موضوع واحد، وجمعِ ما يتعلَّقُ به مِن معلوماتٍ في السيرة، وإعادةِ نظمِها ووضعها في سلك واحد؛ لِيُمَكِّنَ من إعطاء فكرةٍ متكاملة شاملة عن هذا الموضوع، ليفيدَ منه أهلُ الاختصاص الدعويِّ، أو السياسيِّ، أو الاقتصاديِّ، أو الاجتماعيِّ، أو الفكريِّ.
< وقد صُنِّفَتْ كتبٌ في التراتيب الإدارية في دولة النبيِّ ♀- قديمًا وحديثًا- ككتاب تخريج الدلالات السمعية، للخزاعيِّ (789هـ)، وكتاب الكتانيِّ (1382).
< وصُنِّفَتْ كتبٌ في العبقرية العسكرية في الغزوات النبوية بعناوينَ متعددةٍ ككتبِ اللواءِ الدكتور محمود شيت خطاب، والدكتور محمد أبي فارس، والأستاذ محمد فرج(2)، والدكتور عون الشريف قاسم في كتابه (نشأة الدولة الإسلامية على عهد الرسول) إلى دراسات عصرية متعدِّدة ومتنوعة في جوانبَ كثيرةٍ.
< كما تتنوَّعُ تلك الدراساتُ النوعية المعاصِرة إلى تجديدٍ في أدواتِ عَرْضِها وأساليبِ تقديمِها؛ كما في: أطلس التاريخ الإسلاميِّ قديمًا وحديثًا، واختصاص السيرة بخرائطَ مصورةٍ ورسوماتٍ موضِّحَةٍ لأحداثها(3).
ويُنْتَظَرُ- إن شاء الله- أن تَصدُرَ كتبٌ أخرى في مجال السيرة المقارنة، التي تُعنَى بمقارنةِ سيرةِ النبيِّ [ بسيرةِ مَن عايشوا زمانَهُ ممن حكموا وملكوا من الأكاسرة والقياصرة وغيرهم؛ لِتُقارِنَ هذه الكتبُ حالَ الدولةِ الإسلامية، والحياةِ السياسيةِ، والاجتماعيةِ، والدينيةِ في عهدِهِ ♀ بحالَتِها في الدولِ الموجودةِ في ذلك الزمانِ؛ لِيَتَبَدَّى الفرقُ الواسعُ، والبونُ الشاسعُ بين حياته ♀[ وحياة غيره.
وتقارِنَ- كذلك- بين دعوته ودولته من جهةٍ، ودعوة ودولة غيرِه من جهةٍ أخرى.
خــاتـمـة
يتلخص البحث بنتائجه في النقاط الآتية:
أولًا: لتعريف علم السيرة النبوية اتجاهات ثلاثة: والتعريف المختار لعلم السيرة النبوية الكاملة هو: علم يبحث في عصر نبينًا ♀ وحياته، ووقائع أيامه وأحواله كافة، مرتبة من مولده إلى وفاته! وما اتصل بحياته من العلوم والفوائد.
ثانيًا: موضوع علم السيرة النبوية الكاملة هو: النبي ♀ وزمانه من حيث أحواله وترتيب وقائع أيامه.
ثالثًا: لعلم السيرة النبوية أسماء متعددة أهمها: علم المغازي، وفقه السيرة وهديها، السيرة النبوية الكاملة، أو السيرة السنة، والاسم الأخير مستجد لاعتبارات علمية وفنية مقصودة.
رابعًا: علم السيرة النبوية الكاملة علم مستقل بذاته: وقد يرتبط بغيره ببعض العلاقات العلمية بيانها كالتالي:
1ـ علم المغازي يرادف علم السيرة عند المتقدمين، لكن علم السيرة النبوية الكاملة باصطلاح المعاصرين اليوم يتميز عن المغازي بمحاولة ذكر وقائع الأيام، ونقل أحوال سيد الأنام على أكبر قدر من الإحاطة والتمام.
2ـ لعلاقة علم الحديث والسنة بالسيرة النبوية الكاملة ثلاثة أقوال:
الأول: أن علم السنة والحديث أعم مطلقًا والسيرة أخص.
الثاني: أن بينهما عموم وخصوص وجهي، فالحديث أعم من جهة موضوعه والسيرة أخص، والسيرة أعم من جهة ضوابط تدوينها وكتابتها والحديث أخص.
الثالث: أن علمي السيرة النبوية الكاملة والحديث متطابقان أو مترادفان لغة واصطلاحًا، مع فروقات يسيرة لا تؤثر في هذا الاعتبار، ولهذا قد يسمى علم السيرة النبوية الكاملة باسم بجمع بين العلمين فيقال: السيرة السنة.
3ـ علم التاريخ أعم من علم السيرة النبوية الكاملة من حيث امتداده المكاني والزماني من غير شك، والسيرة النبوية الكاملة أعم من جهة استقصائها لجميع أحواله ♀ العلمية التشريعية ، والعلمية السياسية، والأخلاقية، والتصرفات البشرية، وخصائصه وشمائله ودلائل نبوته، وفقهه الحضاري العقدي المنهجي فلا يُسَلَّم أنها علاقة الأصل بالفرع؛ بل هي أقرب إلى العموم والخصوص الوجهي.
4ـ علم السيرة النبوية الكاملة أعم مطلقًا من علوم الخصائص والشمائل والدلائل، وهي نفس علاقتها جميعًا بعلم الحديث والسنة.
خامسًا: يستمد علم السيرة النبوية الكاملة مادته البشرية من معين شريف الأصول منيف المرتبة متنوع الروافد والموارد.
وفيما يلي عرض لموارد علم السيرة النبوية الكاملة:
1 – القرآن الكريم: وهو أصح، وأسلم مواردها وأصدقها تصويرًا لأحداث السيرة، ووصفا لوقائعها، ورسمًا لخلجات المشاعر فيها مع إيجاز وإعجاز في العناية بشخصه ♀.
2 – علوم القرآن الكريم: فالتفسير لآيات القرآن وما سطره من أهداف السيرة من أهم تلك الموارد، ومثله أسباب نزول الآيات، وعلم الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والسفري والحضري، ونحوها من العلوم المهمة.
3 – الحديث النبوي وشروحه وعلومه: الحديث أوسع موارد السيرة وأغزرها مادة، وهو أعم منها أو يرادفها علاقة، وشروحه نافعة مفيدة، ومناهجها متعددة متنوعة، والحديث بشروحه والقرآن بعلومه يمثلان منظومة محكمة في نظم السيرة النبوية الكاملة.
ولبعض علوم الحديث أثرٌ لا ينكر في إمداد السيرة الكاملة كعلم أسباب ورود الحديث، والناسخ والمنسوخ من الأحاديث.
4 – علوم التاريخ العام وتاريخ المدن: فالسيرة يقع جزؤها الأكبر داخل علم التاريخ العالمي والإسلامي العام، وتاريخ مكة والمدينة – شرفهما الله -معين ثري في إمداد السيرة النبوية الكاملة.
5 – علوم الطبقات وتراجم الصحابة ╚: وهي تعطي السيرة الكاملة مزيد تفاصيل دقيقة لرواياتها، وتصوير خاص لوقائعها.
6 – علم جغرافية الجزيرة وكتب معاجم البلدان: وهي تعرّف كثيرًا بأماكن السيرة، وربما ورد نزر يسير في ثناياها عن أحداث ووقائع تتعلق بالسيرة ورجالاتها.
7 – شعر وأدب صدر الإسلام: الشعر ديوان العرب سجلوا فيه أخبارهم وأيامهم ومآثرهم فلا تخل واقعة أو حادثة مهمة في السيرة النبوية من تسجيل شعري لها.
8 – الدراسات النوعية في السيرة النبوية: وهي تتضمن أنواعًا كثيرة تدخل فيما يمكن أن يسمى بالسيرة التحليلية أو الموضوعية أو المقارنة، وهي دراسات في إمداد السيرة مهمة ونافعة.
سادسًا: ما تزال الأمة تنتظر من يتصدى لمشروع رائد في السيرة النبوية يكتب أيامها فيرصف الآية بجوار الحديث والخبر، ويجمع بين الهدي والقدوة، وبين العلم والتربية، ويقرن بين العبادة والجهاد، والسياسة والزهادة في سياق حياته، والله تعالى المسئول أن يقيّض لهذا المشروع من يخلص النية فيه، ويصدق في بذل أسبابه وتوفير إمكاناته، والحمد لله رب العالمين.
د. يسري إبراهيم
————
* المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر العالمي الثاني للباحثين في السيرة النبوية الذي نظم بفاس أيام 28-27-26 محرم 1436 الموافق 22-21-20 نونبر 2014.
(1) يراجع- للتوسع- بحثَ: محاور وعناصر التجديد في عرض السيرة النبوية، د. خالد حنفي، ضمن بحوث المؤتمر العالمي الثاني لمنظمة النصرة العالمية (ص117-139).
(2) السيرة النبوية.. دراسة تحليلية، د. محمد أبو فارس (ص70-71).
(3) وقد فعل كثيرًا مِن هذا د. حسين مؤنس، ود. عماد الدين خليل، وغيرها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>