إلى أن نلتقي – قمع الغش… متى يأتي أكله؟


قبل امتحانات البكالوريا، كان هناك أكثر من خطاب رسمي ينبه إلى ما مفاده أن عهد الغش في الامتحانات قد ولّى، وخاصة في امتحان البكالوريا، الذي يُبنى عليه ما يبنى من قِبَل التلاميذ وأُسَرهم بل ومن قِبل مستقبل الدولة ككل. فلقد تم الإعلان عن ترتيبات وإجراءات لمنع الغش ومحاصرته، أو قمعه إن اقتضى الحال ب “الضرب من يد من حديد” على كل من تسول له نفسه الخوض في ذلك. وكان من بين الإجراءات المقترحة؛ منع إدخال الهواتف إلى قاعات الامتحانات، وكل الأشياء التقنية أو الورقية التي تؤدي إلى الغش أو تساعد عليه. ثم توج كل ذلك بتوجيهات إلى الأساتذة المراقبين بان يجتهدوا في المراقبة وألا يحملوا معهم أي شيء، وفي مقدمة ذلك هواتفهم، وذلك ربما دفعا لكل لبس أو التباس أو إيحاء أو شعور بالغبن من قِبَل التلاميذ المرشحين.
وجاء اليوم الأول من الامتحان وكانت المفاجآت:
من جانب؛ هناك تلاميذ مزودون بكل شيء، بدءاً بالهواتف الذكية وفوق الذكية، وانتهاءً بالوسائل التقليدية من أوراق و”تحراز” مع اعتماد مختلف الحيل لتوظيف ذلك، وكأن شيئا لم يُقل ولم يصدر ، لا من الجهات الوصية بصورة مباشرة، ولا من وسائل الإعلام التي تداولت ذلك وفصلت فيه الحديث مناقشة وتحليلا، وتبادل الكلُّ كلَّ ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن جانب آخر ؛ أساتذة مراقبون عُزَّل من كل شيء، حتى من الهواتف.. فكانت المفارقة !!
امتثل الأساتذة للتوجيهات واقتنعوا –كلهم أو جلهم– أن ذلك يمكن أن يساعد على إنجاح الامتحان، وتمردت شرائح من التلاميذ، كالعادة، لتُرجِع ظاهرة الغش إلى المربع الأول كما يقال.
ثم ما إن مَرّ اليوم الأول ثم اليوم الثاني، حتى بدأنا نسمع ونقرأ عن كوارث،، لم يعد الأمر مقتصرا على الغش داخل القاعات، بل أصبح الحديث عن تسريبات، وبدت أوراق الامتحان تُتَداول فيما بين الناس على وسائل التواصل الاجتماعي وتطوف كل الدنيا، والتلاميذ يجتازون الامتحان ذاته في القاعات.
لقد كان الأمر في البداية مدعاة للشك والارتياب، إلى أن أعلن بشكل رسمي عن إعادة امتحان مادة الرياضيات، فتبين لذي عينين أن الأمر قد حصل، وحصل ليس في مادة واحدة، بل في أكثر من مادة، مع تفاوت النسبة في التداول العام لكل مادة، لأن بعض المواد سربت أسئلتها فيما يبدو من داخل قاعات الامتحان بعد تصويرها بالهاتف، وإرسالها إلى حيث خلايا المعالجة السريعة لهذه الأسئلة، ثم إرجاعها بعد ذلك إلى أصحابها المرسِلين لها على الأقل.
إن هذا الحدث، حدث الغش، الذي تَحَوّل إلى ظاهرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بِغضّ النظر عن أسبابه الآنية وتداعياته، يبين أن الغش في الامتحانات عندنا ليس أمرا طارئا أو ظرفيا، بل هو ناشئ عن تكدسات وترسبات تربوية واجتماعية.
هي ترسبات تربوية بيداغوجية نتيجة لما عاشه ويعيشه التلميذ منذ نشأته الأولى، حيث إن وَحَل الظاهرة يمسك به كل يوم، ويمنعه من أن يرى نور الشفافية والمصداقية والإخلاص؛ فكل شيء يدفعه، أو يوحي إليه على الأقل، بمزاولة الغش: الساعات الإضافية.. النقط المجانية.. تغافل شرائح من الأساتذة وهم في قاعاتهم عما يمكن أن يحدث من “تخابر” فيما بين التلاميذ من أجل تداول الجواب السليم.
وهي ترسبات تربوية أخلاقية للمحيط الذي فشا فيه الغش بشكل كبير، بل حتى الأجواء الداخلية للعديد من الأُسَر ترى الغش مغنما سريعا، والصدق والإخلاص مغرما يحمل وراءه أثقال التقليد و”النية” و”عدم التطور” تبعا ل”الألاعيب الحديثة”.
ومن ثم فإن الكلام عن محاربة الغش أو قمعه لا مجال لأن يؤتي أكله إذا لم يُحارَب هذا الاعتقاد الدفين لِـمـَن يؤمن بأن الغش هو الحل، وذلك بتجنيد كل الوسائل: الوسائل التربوية أولاً، وخاصة التربية الدينية التي أريد لها ألا تؤدي أي دور، والوسائل الإعلامية ثانيا على اختلاف أشكالها ومستوياتها، وذلك على امتداد الأيام والشهور، وليس في أوقات الامتحانات فقط، فالأمور الظرفية لم ولن تربي عقلية صالحة على الإطلاق.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>