مركزية الصدق في نجاح ا لعمل


منطلق حديثنا في هذا الموضوع قول الله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيرا (الإسراء : 80)
فالآية نص -باصطلاح علماء الأصول- في باب الصدق في كل شيء، وهي تدلنا على أساس من أسس الاعتقاد من حيث الاستناد إلى رب العباد، للحصول على أنواع الإمداد للصدق في العمل والفوز فيه بالمراد. فللصادق من القوة ما ليس للكاذب، وارجع إلى التاريخ ينبيك بقوة الصادقين وضعف الكاذبين، ومفتاح الوصول إلى الأصول لغة الضاد تقول بأن مادة (ص د ق) تدور على «قُوَّةٍ فِي الشَّيْءِ قَوْلًا وَغَيْرَهُ. مِنْ ذَلِكَ الصِّدْقُ: خِلَافُ الْكَذِبِ، سُمِّيَ لِقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ لَا قُوَّةَ لَهُ» (1)
ولنرجع إلى مقام نص الانطلاق لنعرف سبب النزول قبل التعميم، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ َ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (الإسراء : 80) (2)
بالصدق مع الله تعالى خرج النبي ظاهرا على الكفار المتواطئين على قتله، خرج مهاجرا إلى الله تعالى من مكة المكرمة عالي الهمة ثابت القدم وذاك مخرج صدقه، وموليا وجهه شطر المدينة المنورة فطويت له المسافات وأزيلت أمامه العقبات، فوجد المدينة مزينة في شوق إلى سيد المخلوقات، فحلت بحلوله بها الخيرات والبركات، وذاك من مدخل صدقه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وما مقام النص إلا مجرد مثال، وإلا فكل مداخله ومخارجه في كل تصرف من تصرفاته ، مداخل صدق ومخارج صدق.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فمدخل الصدق ومخرج الصدق: أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله، ولله، وفي مرضاته، متصلا بالظفر بالبغية، وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله، الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها.» (3)
ومن ثم فكل تصرف قولا كان أم عملا، كي نظفر بالمقصد من ورائه لا بد من الصدق في التخطيط له من مدخله إلى مخرجه، والسبيل هو المجاهدة ليكون كل ذلك لله وبالله وبأمر الله تعالى.
وبنوع من التفصيل نقول بأن دخول المسلم إلى السوق أو المتجر أو المصنع أو الحقل أو الإدارة أو أي مؤسسة من المؤسسات أو الحافلة أو البيت … والدخول في قول أو عمل في هذه الأماكن أو غيرها، هذا الدخول المشار إليه، كي يكون مدخل صدق والخروج منه مخرج صدق، يجب تحقيق ما يلي:
- أن يكون العمل لله سبحانه، وذلك بالمجاهدة لتجريد النية في العمل مما سوى الله تعالى، لأن مبنى الأعمال على النيات، والمجاهدة بالتشذيب والتهذيب تؤتي ثمارها بصدق اللجوء إلى الذي يعلم السر وأخفى، فعن معقل بن يسار قال النَّبِيُّ لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قَالَ: (قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لما لا أعلم) (4).
- أن يكون العمل بالله عز وجل، وذلك بالمجاهدة لصدق التوكل عليه، فمن توكل عليه كفاه وهو حسبه ونصيره، ولن يكون ذلك إلا بعمق الفاقة والافتقار إلى الله الغني الحميد، ولبلوغ هذا المقام فالمعول عليه عون صاحب الطول والحول والقوة، روى ابن أبي شيبة عن إِسْحَاق بْن سُلَيْمَان، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ، وَحُسْنَ الظَّنِّ بِكَ» (5)
- أن يكون العمل بأمر الله تعالى وذلك بالمجاهدة للسير فيه على منهاج الله العليم الحكيم سبحانه، عبر طلب العلم لئلا يقدم المرء على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، وصدق طلب الهداية من الله تعالى في الصلوات وغيرها لحاجتنا إليها في كل حركة وسكنة.
إذا تحقق المسلم بحال الصدق كما سلف بإذن الله تعالى وحوله وقوته، كان ضامنا على الله تعالى أن يحقق بغيته ويرفع مقامه، ويمن عليه بمنازل صدق في الدنيا والآخرة، ومنها ما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز، من لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق.
فلسان الصدق هو ذلكم الذكر الحسن الذي يجريه الله تعالى عن المؤمن الصادق، من غير تطلع منه إلى ذلك، على ألسنة الناس في الدنيا، وتلك من عاجل بشرى المؤمن كما أخبر الصادق المصدوق، ففي حديث أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ : أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» (6)
وأما قدم الصدق فهو ما يلقاه المؤمن عند الله من ثواب حسن، نتيجة ما قدمت يداه من خير في الدنيا، كما بشره به ربه في القرآن الكريم قائلا: وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ (يونس : 2)
وأما مقعد الصدق فذلك مقام رفيع أعده الله تعالى للمتقين من عباده، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (القمر : 54-55)
وتأكيدا لما أشير إليه من حال الصدق في العمل مدخلا ومخرجا ومآلا، جاءت أحاديث نبوية شريفة ببعض النماذج كالجهاد والصلاة..
ففي حديث أبي هُرَيْرَةَ عن رَسُولُ اللهِ قال: «انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرُسُلِي، أَنَّهُ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» (7)
وفي حديث أبي أمامة عن رسول الله قال: «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ؛ رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ، فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ، فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٍ دَخَلَ بَيْتَهُ بِالسَّلَامِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ» (8)

د. إدريس مولودي
——————–
1 – مقاييس اللغة/صدق.
2 – سنن الترمذي، كتاب أَبْوَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، الحديث رقم: 3139. قال الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» قال الألباني: (ضعيف الاسناد) أنظر ضعيف سنن الترمذي، الحديث رقم: 611.
3 – التفسير القيم، لابن القيم (ص: 360)
4 – رواه البخاري في الأدب المفرد، باب فضل الدعاء الحديث رقم 716.
5 – مصنف ابن أبي شيبة، كِتَابُ الزُّهْدِ، الحديث رقم: 35334.
6 – صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، الحديث رقم:2642.
7 – أخرجه أحمد في مسنده، مُسْنَدُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الحديث رقم: 8980. قال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
8 – أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الجهاد الحديث رقم: 2400. قال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 3053 في صحيح الجامع.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>