تتداول وسائل التواصل الاجتماعي عددا من الرسائل التي تحمل إما أدعية وإما حكما ووصايا وأمثالا، إلخ.. وتأتي تلك الرسائل أحيانا أمورا منكرة في مضمونها، كما أنها لا تتحرى في الآيات الكريمة ولا في الحديث النبوي الشريف، ثم إن بها توجيهات أكثر نكرا، كأن يقال مثلا: من أرسل هذه الرسالة إلى سبعة من معارفه غفر الله له ذنوبه، أو غير ذلك من الخزعبلات التي لا تجد مستندا لها لا في المنقول ولا في المعقول. وأنا أفهم تداول العامة مثل هذه الرسائل الساذجة، ولكن الذي لا أفهمه أن يسقط الخاصة في (فخ الكلمات المنصوبة)، كما سميناها في حلقة ماضية. ويزداد الأمر فظاعة عندما يتعلق الأمر بكسر اللغة وتحطيمها، إملاءً وإعرابا ومعاني ودلالات. ويتعلل بعض من نُــبهوا من الخواص إلى ذلك بأن العبرة بالنيات الحسنة وشرف المقصد، لذلك لا بأس بأن يغض الطرف عن مثل تلك الأمور الصغيرة. ولم يكن ذلك بعذر. فإن وصول تلك الرسائل من ذوي الاختصاص إلى العامة يُتخذ حجة، ويصير مثلا يحتذى، ويقولون: لو كان غلطا ما أرسله إليَّ فلان وهو من هو علما وفضلا. وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى على نبيه.
ومن تلك الأغاليط عدم التمييز بين بعض الألفاظ وما يظن أنه من المترادف، وما هو كذلك. ونحن لسنا على مذهب من يقول إن المترادف لا وجود له في اللغة، إذ لا بد من وجود فروق ولو ضئيلة بين لفظ ولفظ. ويستدلون على ذلك بالقصة المشهورة التي جرت بين علمين من أعلام اللغة، أحدهما يقول إنني أعرف للسيف مئة اسم، والآخر يقول إنني لا أعرف للسيف غير اسم واحد هو السيف، وأما ما سوى ذلك مثل المهند والصارم والحسام فهي أوصاف. فالمترادف في اللغة أمر قائم، وقد علل ذلك أنصاره بأنه لغات. فتميم تسمي الشيء كذا، وقريش كذا، وحنيفة كذا..الخ.. ثم أبقى العلماء على ذلك على أنه من المترادف، وإن كان هناك من العلماء من ذهب إلى أن العرب قد استغنت عن المستثقل إلى الهين اللين، فليس هنالك مثلا من يقول: (العَـطَنَّط)، يريد به الطويل. وفي مقابل ذلك لست ممن ينكرون الفروق بين الألفاظ، ولولا ذلك لما صنف علماء اللغة في الفروق. ومنذ القرن الثاني للهجرة فرق شيخ العلماء الجاحظ بين ما يُظن أنه من المترادف وليس منه. فالناس لا يفرقون بين (جزى) و(جازى)، و(عاد) و (رجع)، و(المطر) و(الغيث)، و(الجوع) و(السغب)، وغير ذلك كثير مما لا يتسع له المقام، ولذلك سنقتصر في هذه الحلقة على مثل واحد، وعسى أن نرجع إلى غيره مستقبلا.
أرسل إلي ناقد أديب ــ على هاتفي النقال ــ رسالة من تلك الرسائل الطوافة على الناس، وعندما نبهته إلى ما فيها من أخطاء، عقدية ولغوية، كتب إلي: (جازاك الله خيرا على التنبيه)، وكثيرا ما يجري مثل هذا على ألسنة العوام وبعض الخاصة، فإذا أسديت إلى بعضهم معروفا قال شاكرا: (جازاك الله خيرا)، أو قال ــ وهو أوضح ــ : (الله يجازيك)، ويمدّ الأف مدا. وما أدري أي ذنب جناه المحسِن حتى يُدعى عليه، ذلك بأن الفعل: (جازى) لا يستعمل إلا في الشر. وإذا قيل: (جازاك الله) أو (الله يجازيك) كفى، ولا يحتاج إلى مزيد بيان، ليفهم أنه دعاء بالشر. والنطق بالفعل في صيغة الماضي لا يُتبين فيه الخطأ في معظم الأحيان، إذ قد يختلس المدّ، وذلك ما لا يكون في المضارع. ولذلك يؤثره بعض الفضلاء، ومنه الشيخ الدكتور الشاهد البوشيخي الذي يحرص على أن يقول لمخاطبه: (الله يجزيك خيرا)، فهنا لا يقع أي التباس، وأنه دعاء بالخير.
فمن الشواهد على مجيء (جازى) دالة على الشر جاء قوله تعالى: (وهل يجازى إلا الكفور) (سبأ:17). هذا في قراءة نافع، وفي قراءة عاصم: (وهل نجازي إلا الكفور)، وهذا استعمال مطرد عند العرب وفصحاء العربية قديما وحديثا.
وعلى مذهبهم هذا سار أحمد شوقي الذي قال:
ولي قلب بأن يهوى يجازى ومالكه بأن يجني يثاب.
فدل فعل (يجازى) على الشر.
وأما: (جزى) فتأتي في الخير والشر جميعا، وإن غلب مجيئها في الخير، وبهذا جاء القرآن الكريم وفصيح لسان العرب.
فمن النصوص الدالة على مجيئها في الخير وحسن الثواب قوله تعالى: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (الإنسان:12)، وقوله سبحانه: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا . (الفرقان:75). وقال عز من قائل: إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (المومنون : 111)، ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها وسنجزي الشاكرين (آل عمران: 145)، وكذلك نجزي المحسنين (الأنعام:84).
وأما استعمال (جزى) للدلالة على الشر فمنه قوله تعالى: ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (الأنعام:146)، ذلك جزيناهم بما كفروا (سبأ:17)، وكذلك نجزي المفترين (الأعراف: 152)، وكذلك نجزي الظالمين (الأنعام:41)، سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب (الأنعام:157)، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (الأعراف:40). قال الراغب في المفردات: (والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. يقال: جزيته كذا وبكذا).
ورحم الله تعالى شيخنا عبد السلام الهراس الذي علمنا هذا ونحن على مقاعد الدراسة الجامعية، وذكر لنا بيت النابغة المشهور:
جزى ربَّه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل.
وما قال فيه العلماء بالشعر واللغة واختلافهم في هذا الاستعمال، فمنهم من اعتبره شاذا، إذ كان من حقه أن يقول: (جازى) الدالة على الشر، ومنهم من اعتبره لا شذوذ فيه، إذ (جزى)، كما سبق الذكر، تأتي في الخير والشر على السواء، ويشهد لذلك كتاب الله تعالى. على عكس (جازى) التي لا تأتي إلا في الشر، كما بينا آنفا.
وجزى الله خيرا أولي الألباب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
يلتقطها د. حسن الأمراني