ما الغاية من خلق الإنسان ؟
إن إدراك الغاية من خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، ليست في استطاعة أي أحد، لأن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا، ولم يكلفه إلا بما هو قادر عليه من الواجبات الشرعية، ومكنه بقليل من العلم. {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ومعلوم أنه سبحانه لم يخلق الإنسان عبثا بل خلقه لغايات أطلعه عز وجل على بعضها وأخفى عليه الكثير، كما أخفى ذلك على الملائكة الكرام. قال تعالى مخاطبا إياهم على سبيل الإخبار لا الإستشارة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة : 29) وحيث إن الإنسان أخفي عليه الكثير من الغيبيات التي تنتظره بعد مماته إلا أنه عرف في المقابل أنه مكلف بنوعين من العمل، وهما العمل الدنيوي والعمل الأخروي. وغالبا ما يتداخل أحدهما في الآخر على اعتبار أن الدنيا دار عمل وفناء والآخرة دار جزاء وخلود. إما في نعيم الجنة أو في نار جهنم، وقى الله منها أمة محمد [.
- الإنسان مأمور بالعمل:
قال الله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }. وقال في سورة الجمعة:{ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ …}. وفي الحديث أن رسول الله [ قال :” لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ “رواه البخاري، وفي حديث آخر قال عليه السلام: ” مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ” رواه البخاري والنسائي و أبو داوود .
ومن هنا نعلم أن الإنسان خلق ليعمل بعقله وجوارحه التي زرعها الله في جسمه ليدرك بها عظمة الله في كونه وقدرته على كل شيء بما في ذلك إعادة الخلق يوم القيامة. قال تعالى :{وَفِي أَنْفُسكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وقال: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}. إن الإنسان يعمل بحسب إرادته واختياره وبكل الجوارح التي يتوفر عليها، والتي سوف تشهد يوم القيامة بما عملته لصاحبها في الدنيا، فطوبى لمن شهدت له، وبئس لمن شهدت عليه { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فكل إنسان يجزى بحسب عمله، ولا مفر له من إحدى الدارين، لأنها ثمار عمله في الدنيا { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ( فصلت : 45).
- لكل عمل جزاؤه :
بعدما علم الإنسان أنه مأمور بالعمل وأدرك أن الغاية من وجوده ليست هي الأكل والشرب والتمتع بملذات الحياة، وعلم كذلك أنه يحمل أمانة عظيمة ورسالة استخلافية تحتاج إلى تدبر ومجهود لتأديتها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل ورسوله [، هَبَّ لاختيار العمل الصالح الذي يفيده في دينه ودنياه، معتمدا في معرفته لذلك على النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وعلى فتاوى واجتهادات علماء المسلمين فيما لم يرد فيه نص صريح، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. (النحل والأنبياء : 43-7) وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن رسول الله [ قال: “إنَّ الحلالَ بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس … ” فمن هدي من الناس إلى الصراط المستقيم، وقدم عمل الآخرة على الأولى كان من المتقين الذين ائتمروا بما أمر به النبي محمد [ في قوله تعالى : {وَلَلْآخِرَة خَيْر لَك مِنْ الْأُولَى …}. وفي قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ } ( القصص : 77 ) ولا شك أن الأمر في هذه الآية للعموم، لأن أداء الفرائض والحكم بالعدل وقول الحق وفعل الحسنات … أعمال صالحة في متناول الجميع، وفاعلها يجزى عليها وتكتب له حسنات، كما تكتب الحسنة لمن ينوي القيام بعمل صالح ولم يتمكن من تنفيذه لسبب من الأسباب ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى … ” ومن حِكَمِ الله ومن نعمه على عباده أنه سبحانه أتبع الأمر بالنهي فقال: {… وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} وهذا النهي يدل على أن الإنسان لا يجوز له أن يتفرغ للعبادة وينسى حقه مما أحله الله له من متاع الدنيا ونعيمها، هذه الدنيا التي زينها الله للإنسان وحبب له منها مشتهيات كثيرة، قال سبحانه : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} ( آل عمران : 14) وجعلها له كسوق تجاري يراهن فيها على الربح الأخروي، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة :121). إن المسلم الذي ينظر إلى الدنيا بعين الحكمة ويزن أموره فيها بميزان الشرع والعقل ثم يعطي لكل دار حقها – كما قال بن عمر رحمه الله : ” احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ” (الجامع لأحكام القرآن : 13/ 314) – لا يخيب الله رجاءه في الدنيا والآخرة. أما من تعلقت قلوبهم بحب الدنيا ومتاعها بشكل مفرط، فجندوا أنفسهم لكنز الأموال بطرق لم يراعوا فيها الحلال أو الحرام، ظانين أن السعادة في الدنيا لا تتحقق إلا بالمال، فهم خاسرون لا محالة وبعيدون عن الصواب، ولو كانت السعادة تتحقق بالمال وحده كما يظنون، لسعد به قارون ومن هم على شاكلته في عصرنا هذا، الذين يختلسون الأموال العامة أو الخاصة ويهربونها خارج أوطانهم فيستفيد منها الأجنبي ويحرم منها أبناء أمتهم الذين هم في حاجة ماسة إليها، وقد كشف الربيع العربي الكثير من هذه الحالات. ألا يعلم هؤلاء أن سخط الله لا يصل إلى العبد إلا من باب المعصية كهاته وفي الحديث أن الرسول [ قال : ” ما من عبد -وفي رواية- من والٍ يلي رعية من المسلمين ، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة ” رواه البخاري ومسلم. إن هؤلاء الذين ينهبون ثروات الوطن بطرق مختلفة يجب أن يحاسبوا في الدنيا قبل الآخرة، كيفما كانوا ومهما بلغت منزلتهم في المجتمع، لأن شرع الله ليس فيه استثناء كما هو الحال في القوانين الوضعية التي تمنح بعض المسؤولين في المجتمع الحصانة الشخصية وتقيم لهم محاكم خاصة إذا ما افتضح جُرْمُهُم. وفي الحديث أن رسول الله [ قال : “إنما أهلك الذين من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ” رواه البخاري.
إن عدالة الله بين العباد نعمة للجميع ولهم فيها من الأمن والإطمئنان ما يجعلهم سعداء في الدنيا، وفقدانها فيه ما فيه من الفتن وعدم الاستقرار للظالمين والمظلومين على السواء، نسأل الله السلامة والعافية من كل شر ونعوذ به سبحانه من الذل والهوان في الدنيا وخسران الآخرة آمين. والحمد لله رب العالمين.
ذ. محمد الصباغ