مقاصدية قاعدة : “لا يجتمع العوضان لواحد” عند العز بن عبد السلام وتلميذه الإمام القرافي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فمما لا ريب فيه أن قواعد الفقه من أهم ما يجب الاشتغال به في الفقه الإسلامي؛ لأنها وسيلة لجمع فروع الفقه وضبطها واستيعابها والتَّمَكن من استحضارها، ولأنها كذلك متضمنة لأسرار التشريع وحكمه وغاياته؛ وهي بذلك تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، من خلال تحصيل المصالح للإنسانية في العاجل والآجل معا.
وهذه القاعدة موضوع هذا المقال، هي مجرد مثال للقواعد الفقهية الكثيرة، التي تروم ضبط تصرفات المكلفين في مجال المعاوضات وغيرها؛ تحقيقا لمصالحهم ودرءا للمفاسد عنهم. وسأحاول بإذن الله تعالى بيان مقصدية هذه القاعدة، عند علمين من أعلام الإسلام: سلطان العلماء والإمام القرافي رحمة الله عليهما، بالإضافة إلى بعض التطبيقات المعاصرة، وذلك من خلال الفروع التالية :
الفرع الأول: سياق القاعدة :
ذكر العز – رحمة الله عليه – هذه القاعدة في معرض حديثه عن «قاعدة في المستثنيات من القواعد الشرعية» (1)، وخاصة في سياق تمثيله «[لِـ] ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات»(2)، إذ قال في المثال الرابع عشر: «لا يجتمع العِوَضان لواحد؛ لأن المعاوضات إنما جُوِّزَتْ لمصالح المتعاقدين، فلا تختص بأحدهما»(3).
أما الإمام القرافي – رحمة الله عليه – فقد تحدث عنها عند كلامه عن الفرق بين: قاعدة ما يصح اجتماع العوضين فيه لشخص واحد، وبين قاعدة ما لا يصح أن يجتمع فيه العوضان لشخص واحد(4).
الفرع الثاني: معنى القاعدة :
ومعنى القاعدة أنه لا يجوز ولا يصح شرعا الجمع بين البدلين: العِوض والمعوَّض، في ملك شخص واحد في عقود المعاوضات، التي يلتزم فيها كل طرف بدفع عوض عما استحقه. فتحقيقا لمقاصد التصرفات، يمنع الشارع الحكيم من هذا الجمع بين العوضين لشخص واحد في باب المعاوضات؛ لأن الغرض منها تحصيل المصلحة لكلا المتعاوضين.
الفرع الثالث : مقاصد القاعدة:
تسعى هذه القاعدة إلى تحقيق مصالح المتعاقدين ودفع الضرر عن أحدهما أو كليهما؛ وذلك من خلال منع اجتماع العوضين لأحدهما دون الآخر. ولهذا قال العز – رحمة الله عليه –: «لا يجتمع العِوَضان لواحد؛ لأن المعاوضات إنما جُوِّزَتْ لمصالح المتعاقدين، فلا تختص بأحدهما»(5). وفي اختصاصها بأحدهما تفويت لمصالح المتعاوضين وإلحاق للضرر بهما. «وكذلك لا تصح الإجارة (6)على الطاعات كالإيمان والجهاد والصلوات؛ لأنها لو صَحَّتْ لاجتمع الأجر والأجرة لواحد، وإنما جازت الإجارة في الأذان لأن الأجرة مقابلة لما فيه من مجرد الإعلام بدخول الأوقات، لا بما فيه من الأذكار التي يختص أجرها بالمؤذن»(7).
وقد ذكر الإمام القرافي – رحمة الله عليه – هذه القاعدة مُشيراً إلى ما تسعى إليه من مقاصد، والتي ذكر من جملتها، دفع الضرر عن المتعاوضين؛ لأن اجتماع العوضين لشخص واحد يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لا يجوز أن يكون للبائع الثمن والسلعة معا، ولا للمُؤجر الأجرة والمنفعة معا…(8)
الفرع الرابع : تطبيقات القاعدة :
ومما يدخل في تطبيقات هذه القاعدة ما يلي:
< القول بعدم شرعية عقود الإجارة المنتهية بالتمليك : حيث تعتبر هذه القاعدة من جملة ما اعتمد عليه بعض العلماء في منع ورد عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، إذ لاحظوا في البيع الإيجاري استئثار البائع بعوضي العقد، بحيث يبيع السلعة ويأخذ ثمنها وهو لا يزال مالكاً لها، بينما المشتري يدفع الثمن ولا يدخل المبيع في ملكه. وهناك من لاحظ تحقق هذا الجمع بين العوضين للبائع في هذا العقد في حال انفساخه، وعدم وصول العقد إلى غايته النهائية، وهي نقل الملكية للمستأجر؛ ففي هذه الحالة يدخل العوضان: المبيع والثمن في يد البائع(9).
< بطلان كل عقد تضمن اشتراط جمع العوضين لأحد طرفي العقد دون الآخر؛ لأن “العقد إذا ضامه شرط يخالف موجب أصله وجب بطلانه”(10)، ولأن العقد كذلك يُقصد من وراء تشريعه حفظ وضبط حقوق المتعاقدين، فإذا خرج عن قصد وضعه، إلى خلاف ما وضع له وجب بطلانه. ولهذا فإذا اشترط في عقد الإجارة أو البيع أو غيرهما اجتماع العوضين: الثمن والمبيع أو المنفعة والأجرة، لأحد المتعاقدين دون الآخر، فقد فُوِّتَتْ مصلحة مشروعيتهما؛ لأن في ذلك ضرر بأحدهما، فمصلحة البائع في حصوله على الثمن، كما أن مصلحة المشتري في تمكينه من المُثمَّنِ، ومصلحة المستأجر في تحصيل المنفعة، كما أن مصلحة المؤجر في الحصول على الأجر…
< مَنْ غصب أملاك مؤسسات عمومية أو خاصة من أجهزة والآلات أو غيرها من الممتلكات، ثم حصل لها الإتلاف، بحيث لم تعد صالحة للاستعمال، فبلغ النقص جميع قيمتها؛ وجب على الغاصب غرمُ القيمة من وقت حدوث الغصب وملكُ الأجهزة المتلفة؛ لكي لا يكون المالك جامعا بين العوضين: الأجهزة وقيمتها. وبمثل هذا قال الحنفية في الثوب والإناء المغصوبين، “[فـ] إذا تمزق الثوب وترضض الإناء حتى بلغ النقص جميع قيمته، غرم القيمة وملك المرضوض والممزق؛ استدلالا بأن لا يصير [المالك] جامعا بين البدل، والمبدل”(11). وقالوا كذلك في موضع آخر: “يملك الغاصب الشيء المغصوب بعد ضمانه من وقت حدوث الغصب، حتى لا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد، وهو المالك… كما لو غصب شخص عينا فعيبها، فضَمَّنه المالك قيمتها، ملكها الغاصب؛ لأن المالك ملك البدل كله، والمبدل قابل للنقل، فيملكه الغاصب؛ لئلا يجتمع البدلان في ملك شخص واحد”(12).
الفرع الخامس : المقصد من الاستثناء في القاعدة :
استثنى العز – رحمة الله عليه – من هذه القاعدة المسابقة والنضال، تحقيقا لمصلحة الجهاد، حيث قال: «وأما المسابقة والنضال، فإن الغالبَ فيهما يفوز بالغلب وأخذِ السبق؛ لأن الحصول عليها حاثٌّ على تعلم أسباب الجهاد الذي هو تلو الإيمان، فإن كان السبق من واحد جاز ذلك لما ذكرناه.
وإن كان من المتسابقين أوالمتناضلين، فلا بد من إدخال محلل بينهما تمييزا لصورة المسابقة والمناضلة عن صورة السِفاح»(13).
وهذا الاستثناء من بين المستثنيات التي ذكرها الإمام القرافي – رحمة الله عليه – لهذه القاعدة، فبعدما أشار إلى مقصد هذا الاستثناء بقوله : «غير أنه قد استثنيت مسائل من هذه القاعدة للضرورة وأنواع من المصالح»؛ استثنى في المسألة الثالثة مسألة المسابقة بين الخيل، حيث قال –مؤكدا وموضحا ما ذكره شيخه- : «مسألة المسابقة بين الخيل، فقلنا: السابق لا يأخذ ما جعل للسابق؛ لأن السابق له أجر التسبب للجهاد، فلا يأخذ الذي جعل في المسابقة؛ لئلا يجتمع له العوض والمعوض، فلهذه الحِكمة وبسبب هذه القاعدة اشترط بعض العلماء الثالث المحلل لأخذ العوض»(14).
خاتمة :
هذا ما يسر الله تعالى كتابته في هذا المقال، وقد خلصت في نهايته إلى جملة من النتائج، منها:
< أن العز بن عبد السلام والإمام القرافي من العلماء المقاصديين، الذين برعوا في بيان مقصدية القواعد الفقهية.
< أن القاعدة بتطبيقاتها واستثناءاتها تروم تحقيق مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
< أن القاعدة من القواعد المهمة في الفقه الإسلامي، ولا تزال تحتاج إلى استثمار وإعمال أكثر في قضايا المعاصرة.

ذ. سعيد الشوي 
——————
* طالب باحث بمركز الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية -سايس- فاس
———————————-
1 – قواعد الأحكام 2/283.
2 – قواعد الأحكام 2/297.
3 – نفسه، 2/308.
4 – الفروق للقرافي، الفرق الرابع عشر والمائة،
3/2-3.
5 – قواعد الأحكام 2/308.
6 – الإجارة: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها. شرح حدود ابن عرفة للرصاع، كتاب الإجارة، ص: 512.
7 – قواعد الأحكام 2/308.
8 – الفروق للقرافي، الفرق: الرابع عشر والمائة، 3/3.
9 – ينظر: عقد الإجارة المنتهية بالتمليك: من التطبيقات المعاصرة لعقد الإجارة في الفقه الإسلامي، للباحث محمد يوسف عارف الحاج محمد، ص: 177-181. وعقد الإجارة المنتهية بالتمليك (دراسة مقارنة)، مقال لهيام محمد الزيدانيين، بمجلة دراسات: علوم الشريعة والقانون، المجلد: 39، العدد1، 2012، ص: 121- 122.
10 – المعونة للقاضي عبد الوهاب البغدادي، 2/1122.
11 – الحاوي الكبير 7/139.
12 – بدائع الصنائع 7/152.
13 – قواعد الأحكام 2/308- 309.
14 – الفروق للقرافي، الفرق: الرابع عشر والمائة، 3/4.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>