سلسلة منازل الإيمان – فريد الأنصاري رحمه الله تعالى


منزلة العِلم 1
العلم شرط صحة

1 – العلم مراتب ودرجات
منزلة العِلم، كما قال ابن القيم رحمه الله مصاحبة للسالك من أول مدارجه ومن أول مراتبه إلى آخره، لا يجوز أن يسلك عبد إلى ربه بغير علم، لأن العلم شرط صحة، إن توفر صح العمل بعد، وإن تخلَّف بطُل، ولذلك ترجم الإمام البخاري في صحيحه: (باب العِلم قبل القول والعمل)، لا يصح اعتقاد بغير عِلم، ولا يصحّ عَمَل بغير عِلم، ومن هنا جُعل العلم من منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فهي من المنازل الثابتة، بَيد أنها منزلة قابلة للتدرج والترقي، أي ليست على حال واحدة، ولا هي على مرتبة واحدة، بل العِلم مراتب ودرجات، والعِلم قد يكون تخصصاً خاصا بالعلماء، فهذا ضرب ونوع، وقد يكون مما ينبغي لكل مسلم أن يَعلَمه من الدين، وهذا ضرب آخر، والذي يهمنا ما ينبغي على عامة الناس أن يعرفوه ويتعلموه من العلم، الذي به يسلكون إلى الله عز وجل، والناس في العِلم طائفتان: مُفْرِطة ومُفَرِّطة.
< الطائفة الـمُـفَرِّطة : قوم فرَّطُوا فأنكروا العلم وحاربوه في طريق العبادة، فكانوا بذلك من الجاهلين، وكانوا بذلك من الضالين، الذين قالوا من قبل: تأخذون علومكم من ميت عن ميت، ونأخذ علومنا عن الحيّ الذي لا يموت، هذه كلمة لا تصحّ، ولا ينبغي لعاقل من المسلمين أن يرددها على سبيل الاعتقاد بها والعمَل بها، كلمة قد يستعملها إبليس ويُلقيها على خاطر بعض الذين لا عِلم لهم، فيعبدون الله بغير علم، لا ينبغي أبدا للمؤمن الكيس الفطن أن يسلك إلى الله بمثل هذا القول، فينتقد على أهل القرآن تعلقهم بالقرآن، وينتقد على أهل الحديث والسنة تعلقهم بالسنة، على أساس أنه هو متعلِّق بالله، وهذه كلمة كما قال علي بن أبي طالب : «كلمة حقّ أُريد بها باطل»، التعلق بالله حقّ لكنه مشروط باتباع الكتاب والسنة، فمن خالفهما ما كان أبداً ليصل إلى الله عز وجل، ولا أن يكون من الصالحين، فهؤلاء إذن فرَّطوا في العلم، فعبدوا الله بالجهل، ومن هاهنا نشأت البدع في تاريخ الدين، فأُنشئت عبادات ما أنزل الله بها من سلطان، وقيل بعقائد باطلة بسبب مجافاة هؤلاء للعلم، وإنكارهم لمن تتبع نصوص الكتاب ونصوص السنة، من أين إذن يُؤخذ الاعتقاد إن لم يُؤخذ من صريح القرآن وقطعيه؟ ومن أين يُؤخَذ إن لم يُؤخذ من صحيح السنة النبوية؟، ومن أين بعد ذلك يُؤخذ العمل من صلوات وزكوات وصيام ومندوبات وهلمَّ جرا إن لم يُؤخذ من نصوص الكتاب ومما أُثر من صحيح السنة؟ قلت من هاهنا نشأت البدع، حتى إن من البدع ما كان بدعة حقيقية في نقد العلم، ومن البدع ما كانت إضافية في نقد العِلم، وهذا اصطلاح لأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله، الرجل الرباني العارف بالله حقا، صاحب كتاب «الاعتصام» الذي قسم البدع إلى قسمين: بدعة حقيقية وبدعة إضافية، وليس هذا بمعنى ما يُنتَقد من تقسيم البدع إلى بدع مستحسنة أو حسنة، وبدع منكَرة، فالبدع كلها منكَرة، ليس في القبيح حسن، لا يمكن أبدا أن نُصنف البدعة على أنها بدعة، ثم بعد ذلك نصفها بالحُسن، فوصف البدع بالإضافية والحقيقية شكل آخر، وينبغي للحصيف أن يميز بينهما في معرفته، وفي دعوته إن كان من الدعاة إلى الله عز وجل، وفي علاقاته مع أهل البدع، وهذا التقسيم مقبول على أصول الكتاب والسنة. فمن البدع ما هو بدع حقيقية، أي لا أصل له في الدين، كأن يقوم شخص مثلا بشق رأسه على أنه يعبد الله بذلك، فمثل هذا ما أنزل الله به من سلطان، أي ليس هناك أبداً من نص في الكتاب، ولا في السنة، ولا في اجتهاد المسلمين عبر التاريخ ما يمكن أن يُستأنس به في إجازة مثل هذا العمل، هذا بدعة حقيقية. وهذا خطير فعلا وينبغي أن يُنتبه إليه وهو ما له أصل في الدين، أي عنده فيه أصل لكن التحريف ليس في الأصل، لا، التحريف وقع في تحقيق المناط بتعبير علماء أصول الفقه، أي في كيفية التطبيق، مثلا، كالصيام، الصيام مشروع إما على الوجوب أو على الندب، لكن قد يقع الصيام بنوع من البدع، مثلا: كأن يصوم شخص ولا يستظل، لا يدخل للظل طلبا لزيادة الأجر، هذا باطل، لا يجوز له أن يشترط على نفسه في صومه أن لا يستظل، هذا عمل باطل، فالصوم حقّ، لكن أن تُوَقِّعَه بهذه الطريقة بدعة، وهذه هي البدعة الإضافية وليس الحقيقية، فرق كبير بين تلك وهذه؛ الأول الذي شق رأسه هذا مجنون، أما هذا فعابد لكن بجهلٍ، -بدعةٌ إضافية-، أو أن يصوم بشرط أن لا يُكلِّم أحداً إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ اُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ، يُقال له هذا شرع من قبلنا وهو منسوخ، لأن شرع من قبلنا نعم شرع لنا ما لم يرد ناسخ، والناسخ وارد وهو تشريع رمضان بالمواصفات المعروفة، فما كان النبي يصوم ولا يُكلِّم أحداً، بل كان يكلم الناس ويَخطُب الناس، فإذن البدع الإضافية في الدين هو ما له أصل في الدين، لكنه عندما أراد أن يُطَبقه أخطأ، أمثال هؤلاء يُقال لهم: مفرِّطون في العلم، فصاروا إلى البدع الحقيقية حيناً وإلى البدع الإضافية حيناً آخر، كالذين ينقطعون عن الأكل والشرب أربعين يوماً مثلاً، هذا ما ينبغي، لأن النبي نهى عن صيام الوصال، وهو أن يصوم الإنسان النهار ويضيف إليه الليل، يصوم الإنسان النافلة مثلا، تجيء المغرب فَيْقُول حتى للعشاء، ومن العشاء حتى السحور الآخر، ومن السحور الآخر حتى المغرب القادم، وقد يضيف..، هذا صيام كان خاصا برسول الله ، فنهى الصحابة عنه، وقال فيه إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، فنهى الصحابة عن ذلك، والذي ينبغي أن يقع لدى الإنسان أن طَلَبَ المشقّة في العبادة ممنوع، لا تبحث عن العبادة المتعبة، ظنّاً منك أن فيها أجرا زائدا، لأن الدين يُسر، نعم، إذا انجرَّت المشقة مع العبادة المفروضة فهذا شيء محمود الصبر عليه، تُؤجر عليه كما يؤجر المؤمن على الجهاد في سبيل الله، يُؤجر المؤمن حتى على الشوكة يُشاكُها، المؤمن مأجور على المشقة التي حصلت له؛ إصباغ الوضوء في المكاره أو على المكاره أيام البرد، ولم تجد الماء الساخن، وصبرت وتوضأت بالماء البارد، فأنت مأجور على هذا. لأن الوضوء واجب عليك، ومادمت تتحمل الماء البارد فعليك أن تتوضأ به وأنت مأجور على المشقة اللاحقة بذلك الفعل، أما أن تتخير المشقة وبين يديك الفعل السهل فلا يجوز أن تختار بين الأمرين أعسرهما، وإنما رسول الله إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما، تهور الإنسان في بعض الأحيان يخرجه من السنة ويرميه في البدعة دون أن يشعر، ظَنّاً منه أنه قد سار إلى العبادة الحقة، «لا يُطلب الدين إلا بعلم». < الطائفة الـمُفْرِطة : طائفة ثانية على خلاف هذه الطائفة التي فرَّطت، طائفة ثانية أفرطت، والإفراط كالتفريط، كلاهما يقود إلى البدعة أيضاً، الإفراط في العِلم ليس معناه أن الإنسان يُكثر من العلم، لا، أبداً، وإنما المقصود هاهنا بالإفراط، إلزام الناس ما لا يلزمهم، العِلم، هناك علم ضروري ما يُسمى بالمعلوم من الدين بالضرورة لا يجوز لمسلم أن يجهله، ما لا يسع المسلم جهله، يعني، كيف تتوضأ وكيف تصلي، واجب عليك أن تعرفه، سورة الفاتحة واجب عليك أن تحفظها، آيات وسور قَلَّتْ أو كثرت مما يُساعدك على الصلوات الخمس واجب عليك أن تحفظه وجوباً عينيا ما دُمتَ مسلماً، لكن أن تُكلف الناس زيادة عِلْمٍ على سبيل التعميم فهذا إفراط، تكليفُ ما لا يُطاق، وتكليف ما لا يُطاق مرفوع في الشريعة، وما كان الصحابة رضوان الله عليهم علماء أجمعين أو على مستوى واحد من العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام وصف معاذاً بن جبل وقال فيه: «وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ»، يعني كان أعلم الصحابة وأفقهَهم بالحلال والحرام، مما يدل على أن آخرين ما كانوا على ذلك المستوى، وقد أُثر عن أبي بُرْدَةَ كما ورد في الموافقات للشاطبي أنه أكل البَرَد في نهار رمضان (التّبْرُورِي)، رآه فأكله، قال: مَاهو بطعام ولا بشراب، وإنما رزق أنزله الله من السماء، لم يعرفه، فليس كل الناس لا في زمن رسول الله ولا بعده، كانوا سواءً في العِلم، وكانت الأنصار في بداية الأمر لا تغتسل من التقاء الختانين، حتى استفاض الخبر على وجوب الاغتسال من لقاء الختانين، مما يدل على أن الصحابة كما أكَّدتُ لم يكونوا على مستوى واحد من العلم، وما كَلَّفَ رسول الله الناس بأن يكونوا علماء أجمعين، مستحيل تكليف ما لا يُطاق، ولذلك قلتُ في بداية الأمر: العِلمُ درجتان، معلوم من الدين بالضرورة هذا واجب على الجميع، وعِلمُ تخصص هو لأهله، متفرغون له وعندهم القدرة والعقل والشروط الاجتماعية والمادية والنفسية، وذلك يؤتيه الله عز وجل لمن يشاء. إذن العلم منزلة، إنما معنى المنزلة هاهنا منزلة إيمانية، ومنازل الإيمان متاحة لجميع المسلمين، إذا كان ذلك كذلك فمعناه أن تحصيل منزلة العِلم ليست من الدرجة الثانية، ليست من درجة التخصُّص، لو كانت كذلك ما كانت منزلة. ———– * منزلة العلم من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بالجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي. أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>