يلتقطها د. حسن الأمراني
السفهــــاء مرة أخرىتحدثنا في الحلقة الماضية عن السفه المادي. وهناك سفه آخر أشد خطورة وهو السفه المعنوي، إذ هو أصل كل فساد. يقول تعالى: وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنومن كما آمن السفهاء. ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (البقرة : 13).. تلك سنة الله في الأرض، لا تتبدل ولا تتغير عبر الأزمنة والعصور. فإن المدافعة بين الحق قائمة منذ الأزل، وإن الباطل يتصرف في صلف وكبرياء، ولا يريد أن ينقاد إلى الحق، بل هو دائما يرجم أهل الحق بصفات لا تليق. وذلك ما تعرض له الأنبياء على مر التاريخ. بل إن أهل الباطل لا يرمون المومنين وحدهم بالسفاهة، بل نسبوا الأنبياء أنفسهم إلى السفه، كما قال تعالى حكاية عنهم: قال الملأ الذين كفروا من قومه إلا لنراك في سفاهة. (الأعراف: 66). ولكن الله تعالى تولى الرد على أهل الباطل، وسفه دعواهم، وبين أن المومنين ليسوا بالسفهاء، بل السفهاء هم خصومهم الذين ما فتئوا يحاربون الحق، وينالون من أهل الحق. وبما ان العلماء ورثة الأنبياء، كان لا بد لهم من التعرض للابتلاء، وذلك بان يصفهم خصومهم بما وصفوا به الأنبياء. وكما أن المومنين من أتباع الأنبياء نالهم من خصومهم من تلك الصفات حظ عظيم، فكذلك هم أتباع محمد يتعرضون لأنواع من الأذى مما تعرض له السابقون. وتلك نوع من الفتنة المقترنة بالإيمان، حيث قال عز وجل: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين. (العنكبوت : 1 ــ 3)
وإذا أردنا أن نعرف شيئا عن هذا الابتلاء وذلك السفه الذي يتصف به المجرمون، فعلينا أن نستحضر صورا من التاريخ، ولن نجد أكثر جلاء من صورة رمز الطغيان التاريخي، ألا وهو فرعون موسى. فهو رمز لكل فساد: الفساد السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والخلقي. ومع ذلك يقول للملأ من حوله: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد (غافر : 26). لقد نصب فرعون نفسه رمزا للإصلاح، وهو يقول لقومه: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (غافر : 29). هكذا إذن تنقلب الموازين، ويصبح رمز الفساد زعيما للإصلاح، ورمز الاستبداد قائدا للديمقراطية والشورى. بينما يصبح الأنبياء الأطهار وأتباعهم من المومنين ــ عند الطواغيت ــ سفهاء مفسدين. وذلك أمر لم يتخلف يوما. فلما جاء نوح عليه السلام قومه بالبينات قالوا في استكبار: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي (هود : 27)، ولما جاء شعيب قومه قالوا يا شعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء (هود : 87).. الحجة هي هي، والمنطق هو هو، ما دخل الدين في الاقتصاد والسياسة والحياة العامة؟ لماذا تريدون تسييس الدين؟ فكل دعوة إلى تطبيق شرع الله عز وجل هي عند المجرمين انحراف بالدين عن مقاصده العليا، كما يزعمون، وخلط بين المقدس والمدنس، وكأنهم أشد غيرة على دين الله عز وجل، وهم كاذبون.
وإذا كانت سنة الله عز وجل ثابتة عبر التاريخ، فلماذا تتغير اليوم؟ ها هم السفهاء من الناس يرمون أهل الصلاح بأنهم سفهاء، والتسميات تتغير، وجوهرها واحد. ففي مطلع منتصف القرن الماضي، ومع انتشار الفكر اليساري، كانت التهمة التي توجه إلى أهل الصلاح هي الرجعية. وصارت المعركة بين (التقدميين) و(الرجعيين)، فكل من عارض استبداد المستبدين وسم بأنه رجعي تجب محاربته. في تلك الفترة ابتليت الأمة، من المغرب العربي إلى أندونيسا، بالانقلابات العسكرية التي كانت تصنف نفسها على أنها ثورات شعبية، وهي لم تقدم للشعوب إلا الكوارث. وإذا قيل لهم لماذا، وأنتم ترفعون شعار التحرير، لا تحررون فلسطين؟ قالوا: إن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير الأمة من الأنظمة الرجعية. وفي تلك الفترة كان التخلص من العلماء المصلحين، والدعاة العاملين، (تطهيرا للأرض من الرجعية)، إما بنصب المشانق، حيث أعدم سيد قطب، وعبد القادر عودة، وغيرهما من صلحاء الأمة ومفكريها، واغتيل الشاعر هاشم الرفاعي داخل الجامعة. وسجن وعذب نجيب الكيلاني ويوسف القرضاوي وعبد الله الطنطاوي ومنلا غزيل وزينب الغزالي، واللائحة تعز عن الحصر.
وقد تدرجت الصفات والتسميات التي يواجه بها أهل الحق عبر العقود، لتظهر في كل عقد تسمية جديدة، من الرجعية إلى السلفية إلى الظلامية إلى الإرهاب… وتلك تسميات وتصنيفات يمكن الرد عليها بالمنطق القرآني الذي قال: ألا إنهم هم السفهاء، فنقول: (ألا إنهم هم الرجعيون، الظلاميون، الإرهابيون..الخ..)، والوقائع شاهدة على ذلك. وكل أولئك الذين تعرضوا للتعذيب أو النفي أو القتل، لم يحملوا سلاحا، ولم يدعوا إلى عنف، ولم يكونوا يملكون غير أقلامهم وألسنتهم.. وكانت دعوتهم جميعا، كدعوة الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ، تقوم على الحسنى والرفق والوسطية، ولكن ألم يقل فرعون مصر القديم: ذروني أقتل موسى، فلم لا يسير على نهجه الفراعنة الجدد، وهم يقولون: ذرونا نقتل..ونقتل..ونقتل..؟ ولذلك قال الشاعر بدوي الجبل مصورا هذا الواقع البئيس:
فرعـــــون مصر وأنت من *** قتل الهواشــــــم لا يزيد
فرعــــون مصر وأنت من *** رشق المصاحف لا الوليد
سُمٍّيتَ فرعونَ الكنــــانة *** وهْي تسمية كنــــود
فرعون ذلَّ به اليهــــــــــود *** وأنت عز بك اليهود.