خروق في سفينة المجتمع


51 ـ اللاجسدية

أعني باللاجسدية الوضع المنافي والمضاد للجسدية باعتبارها وصفا لذلك الوضع المثالي الذي يجسد تعبيرا لأرفع حالة وأسمى مظهر يثمره الإيمان من خلال التحلي بقيمه والخضوع لمقتضياته، إنه الوضع الذي بشر به نبي الرحمة ورسول الهداية سيدنا محمد  أمته في صيغة تنطوي في نفس الآن على وصف موضوعي لما يمثله الوضع الأسمى المذكور، وعلى أمر ضمني لطيف، ببذل الوسع لبلوغ ذلك المستوى المنيف، على صعيد العلاقات الاجتماعية، وذلك هو قول الرسول  : «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» إنه يستحيل أن يأتي كائن من كان، بتشبيه أبلغ من هذا التشبيه الذي صور به رسول الله  حالة المجتمع المسلم وهو ينعم بنعمة التماسك والتعاضد حتى لكأنه في تفاعل أفراده بعضهم مع بعض، أشبه ما يكون بالجسد البشري السليم الذي تتكامل وظائف أجهزته وأعضائه، ويسري فيها ما يشبه التيار الواحد، بمجرد تعرض واحد من تلك الأعضاء لإصابة ما. فليس يسوغ في نظام ذلك الجسد أن تقابل إصابة ذلك العضو بأدنى مظهر من مظاهر التجاهل أو التنكر أو الاستخفاف، أو الغفلة، بل وحتى التسويف، لأن في ذلك مدخلا لسريان الضعف والتآكل المؤدي في حالة الاستفحال إلى الهلاك الشامل لذلك الجسم في لحظة حاسمة من ليل أو نهار.

يتحصل لنا من هذه المقدمة أن تنزيل شرائع الإسلام وقيمه وأحكامه في واقع المسلمين، وفق منهج وسطي قائم على التدرج والرفق، وعلى التحقق قبل التخلق، وجدلية التحلية والتخلية، يؤدي بإذن الله وتوفيقه إلى إرساء دعائم مجتمع الجسدية الذي يقترن بالقوة والمنعة، والخير والبركة، والسلم والأمان.

أما تنكب سبيل الإسلام والتنكر لقيمه وهداياته وفضائله، فمسقط لا محالة في اللاجسدية باعتبارها نتاجا وبيلا للتخلق بكل ما يضاد قيم الإسلام وأركان الإيمان وقواعد الإحسان.

إن الناظر إلى سفينة مجتمعنا وهي تمخر عباب الحياة، لا يمكن إلا أن يداهمه شعور عارم بالألم والتحسر والإشفاق، لما يخترقها من عوامل اللاجسدية التي تنخرها من كل جانب، والتي لا تحجبها بأي حال من الأحوال، عمليات الترميم والتضميد التي تمارس هنا وهناك، في ظل غياب استراتيجية محكمة وشاملة تضمن مناعة الجسد من خلال تلقيحه بأمصال تحميه من قيم اللاجسدية التي يراد لها أن تتمكن وتشيع داخل سفينة المجتمع.

إنه لا يمكن للنزعات السقيمة والأخلاق الذميمة التي تخصب من خلال قنوات السوء على اختلافها وتنوعها إلا أن تنسف سفينة المجتمع في عمقها، من خلال نسف عوامل الجسدية لدى ركابها، بتعويمهم بتلك النزعات والأخلاق. إن التمكين لنزعة الليبرالية التي هي سليلة الأنانية وحب الاستئثار، وفتح صنابير الشهوات والفسوق والعصيان تحت عناوين كاذبة، وشعارات خادعة، ولافتات فاتنة من قبيل الثقافة والفن، وما إلى ذلك، من شأن كل ذلك أن يصيب مجتمعنا في مقتل، بمسحه من الحياء، ودمغه برذيلة الغش والرياء، وجعله عرضة لكل شر وبلاء.

إن اللاجسدية التي تعني تفكك المجتمع وتحلله وتفسخه توحي لنا بصورة جسد تنخره الأمراض والعلل، وتظهر عليه الدمامل والقروح، وتصدر منه الأنات، وتغمره الأوجاع والآهات، أَوَلَيْس الجسد الذي تخرج منه الروح عرضة للتعفن والفساد؟ ومن ثم إلى فقدان صفة الجسدية فيه؟

أليست سفينة مجتمعنا تبحر على غير هدى من شريعة الإسلام؟ وسنة خير الأنام؟ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فأين الروح إذن؟ آلاف الجراح تنزف ولا تداعي ولا حمى إلا ما كان من استثناءات تؤكد القاعدة.

أرواح تزهق، وأعراض تنحر، وأرزاق تنهب، وحقوق تغصب، وقيم تقلب، ودموع تسكب،  وقبل هذا وذاك، كرامة تسلب، أفلم يان لأهل السفينة أن يستحموا في نهر الإسلام العظيم، فيعودوا كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ألم يان لعجب ذنب الجسد المفكك والغارق في الحمأ المسنون أن يينع جسدا حسن الطلعة جميل القوام، مدججا بأسلحة الإيمان، يرفع بها منارات الهدى، ويهدم الأصنام؟

وصدق الله العظيم القائل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ

( الحديد: 16)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>