شرح الأربعين الأدبية [44] في أن في الرد على المشركين شفاءً (3)


رأينا في الحلقتين السابقتين المسألة الأولى من مسائل حديث دعوة النبي  الصحابة إلى الرد على هجاء قريش (سبب الورود)، والمسألة الثانية (تكليف شعرائه الثلاثة بالرد)، وسنرى في هذه الحلقة المسألة الثالثة (جهود حسان) في ذلك.

ثالثا : جهود حسان في الرد.
واضح من الحديث أن لحسان مكانة لم تكن لغيره من الشعراء، وأن له ثقة بنفسه تفوق ثقتهم، يظهر ذلك من فعلين وثلاثة أقوال:
أما الفعلان فهما: إدلاعه لسانه وتحريكه إياه، وسرعة ذهابه إلى أبي بكر وعودته.
وأما الأقوال الثلاثة فهي: قوله: «قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذَنَبه»، وقوله: «والذي بعثك بالحق! لأفْرِينهم بلساني فري الأديم»، وقوله: «يا رسول الله! قد لَخَّص لي نسبك، والذي بعثك بالحق! لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين».
ويظهر كل ذلك حجم ثقة حسان بن ثابت بنفسه، وتَعَجّله الردَّ على المشركين، وتحمّسه لذلك، وتلك ثلاث خصال لم نر خبرا عنها لدى الشاعرين الآخرين.
ثم نُضيف إلى تلك الأمور أن النبيَّ أمَر حسان وحده أن يُراجِع أبا بكر ، ولم يَأمر عبد الله بنَ رواحة وكعب بن مالك بذلك، فظهر الفرق بينهم منهجا وتحمسا.
والظاهر من الأبيات التي روتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديث الباب أنها مختارة من قصيدة حسان، والقصيدة في ديوانه من ثلاثين بيتا، وإذا كان مطلعها مما يُستبعد أن يَكون قاله حسان في الإسلام لذِكره الخمْر ووَصْفه إياها (1)، فإن أبياتا شديدة الصلة بالمناسبة لم تُذكر، ومنها أبيات هِجاء أبي سفيان (2).
وما بين أيدينا مِن أبيات يُمْكِن تقسيمه ثلاثة أقسام:
أولها : ذِكر مناسبة القصيدة، وهي واردة في الأبيات (1، 2، 7)، ومنها يُفهم أن قصيدة حسان هجائية، وأنها رد على هجاءٍ.
وثانيها : جَمْع القصيدة بين ثلاثة أغراض: الهجاء (الأبيات 1، 2، 12…)، والمدح، ولاسيما مدح محمد (البيتان 2، 9)، والحماسة، وقد ذهبت بجل الأبيات (4-8، 10-11، 13).
وثالثها : ذِكر موقف حسان مِن هجاءِ قريش رسولَ الله  (الأبيات: 1، 3، 4).
وقد وجّه حسان –بناء على ذلك- قصيدته أربع وجهات:
وجهة الرسول بالدفاع عنه، ونصرته، ومدحه، وفيه نكتة وهي أن هذا الرسول الذي يهجوه كفار قريش، هو نفسه الذي يفديه المسلمون بأرواحهم وبما يملكون، والهجاء لن يؤثر في علاقتهم به؛ بل لن يزيدهم إلا محبة له، واستعدادا لنصرته، والتضحية من أجله.
ووجهة الجماعة المسلمة، وهي جماعة ملحتمة منسجمة، مستعدة مجندة، متشوقة للإجهاز على عدوها.
ووجهة الذات الشاعرة، وفيها يظهر حسان متحمسا مهاجِما مخلصا دينه لله تعالى، وهو في ذلك يجمع بيْن بيان استعداده التام لنصرة الإسلام، وبين كوْن ذلك الاستعداد غرضه ما عند الله تعالى «وعند الله في ذاك الجَـزَاءُ»، فهم يقاتلون لا لمال أو جاه أو سلطان؛ بل ابتغاء رضوان الله تعالى.
ووجهة كفار قريش، وقد جمع شعر حسان في هذه الوجهة بين الهجاء ردا عليهم، وتخويفِهم ببيان استعداد المسلمين لمحاربتهم، والانتصار عليهم، وإصرارهم على ذلك، ومعنوياتهم المرتفعة؛ لأنهم مدعومون:
وجبريلٌ رسولُ الله فيـنـا
وروحُ القدْس ليس له كِفَاء
وفي هذا وذاك تخويف للعدو، وتهديد ووعيد.
فهذه أربع وجهات لقصيدة حسان، وقد تَضمن شعره بسببها عددا من الرسائل، يُمْكن تلخيصها في ثلاث:
- رفع معنويات الأمة، بعد الأثر الذي أحدثه الهجاء فيها، والانتقال بها من التأثر، إلى الجاهزية.
- تأكيد النصرة للنبي ، واصطفاف المسلمين إلى جانبه، وبذلهم أعراضهم وأموالهم وأهليهم ومواهبهم في الدفاع عن الإسلام.
- تهديد المشركين وتوعدهم بالرد بمختلف أشكاله وأسلحته.
ولقد كان لكل ذلك أثره العميق في المشركين والمسلمين سواء، كما سنرى في المسألة الرابعة بحول الله تعالى.

د. الحسين زروق

———-
(1)- ديوان حسان، ص: (71-77)، ومطلع القصيدة يجمع بين النسيب وذكر الخمرة، ولذلك قال العدوي بعد البيت العاشر: «قال حسان هذه القصيدة إلى هذا الموضع في الجاهلية ثم وصلها بعد بهذا القول في الإسلام»، وأول ما قاله حسان في الإسلام حسب العدوي قوله : عدمنا خيلنا… الأبيات المذكورة في حديث الباب.
(2)- ديوان حسان، ص: (75-76).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>