بنبض القلب – ارتسامات سائح في بلاد محمد الفاتح (5)


رحلة عبر البوسفور

استمبول حاضرة البحر، ومتعة الناظر… حيثما تحركت يصاحبك البحر، فإذا كانت البحور عادة تشكل حدودا طبيعية بين الدول، فإن بحر مرمرة يخترق مدينة الفاتح في شتى الاتجاهات، ويفصلها شطرين (أسيوي وأوربي) بواسطة مضيق البوسفور الذي يمتد على طول 33 كلم… فإذا كان الجانب الأوربي يمتاز بقصوره ومساجده وأسواقه الراقية، فإن الجانب الأسيوي يحتوي على أجمل الجزر وأروع المنتزهات وأفخر المطاعم.. أي أنه محطة للاسترخاء والتمتع بزرقة البحر وخضرة الطبيعة…
من المحطة البحرية على الجانب الأوربي انطلقنا على متن الباخرة لنكتشف البوسفور بشقيه، مررنا بعدة قصور، وبنايات حكومية، وكان مما أثار انتباهي واستغرابي أننا لما مررنا بعدة مؤسسات ذات أهمية قصوى، كجامعة استمبول القديمة والكلية الحربية التي تخرج منها عدة قادة عسكريين شغلوا العالم لوقت طويل أمثال (أتاتورك، القذافي، برويز مشرف وآخرون) لم يثر ذلك حماس أغلب الراكبين في الباخرة، لكن ما كاد المرشد السياحي يشير إلى قصر صغير في الجانب الأسيوي، ويقول : هذا قصر «نور ومهند» يقصد القصر الذي كان مسرحا للمسلسل التركي المعروف ـ حتى ازدحم الناس على حافة السفينة وهم يوجهون عدسات كاميراتهم وهواتفهم الذكية نحو القصر المتواضع، فتذكرت لحظتها قولة لأحد المفكرين «لولا الأغبياء لما كان الأغنياء»، فهذا القصر المجهول الأشبه بفيلا كبيرة، لم يكن ليلتفت إليه أحد، ولكن مسلسلا تافها جعله محجا للزوار طيلة السنة…
بعد ساعتين رست الباخرة على الجانب الأسيوي.. يمتاز هذا الجزء بمناظر غاية في الجمال الطبيعي، لم تزده البنايات المتناسقة إلا روعة وبهاء، ولعل أجمل ما يضمه هذا الجزء هو جزر الأميرات ذات الطبيعة الخلابة والأشجار المتناسقة والحدائق التي تنم عن ذوق رفيع، وتعتبر هذه الجزر محطة إيكولوجية بامتياز، بحيث لا تجوبها سيارة واحدة حفاظا على صفاء هوائها ونقاء بيئتها، وإذا أردت أن تكتشف هذه الجزر فما عليك إلا أن تكتري دراجة هوائية أو تركب عربة كوتشي، في جانب آخر من الشق الأسيوي توجد تلة العرائس، وهي عبارة عن مرتفع يشكل بانوراما رائعة لرؤية زرقة البحر وخضرة الطبيعة، وروعة البنايات التي تمنح رونقها من الهندسة التركية العريقة. وتعتبر تلة العرائس قبلة للعرائس الجدد، الذين يزورنها ليلة زفافهم ويلتقطون فيها الصور التذكارية.
عدنا إلى الجانب الأوربي في المساء وهذه المرة عبر الجسر المعلق ربحا للوقت، وحتى نستغل باقي اليوم في زيارة مراكز التسوق، فزرنا السوق المصري الذي يتميز بالتوابل والحلويات والبزار الكبير، وفي صبيحة الغد (اليوم السادس من رحلتنا) والذي هو آخر يوم في استمبول زرنا أكبر مركز تجاري في القارة الأوربية «فوروم استمبول» والذي يتكون من عدة طوابق، كل طابق يتخصص في نوع من المبيعات، وفي الطابق التحت أرضي للمركز يوجد أكبر «أكواريوم» في العالم والذي يضم أزيد من عشرة آلاف نوع من الأسماك، من الأسماك الصغيرة جدا إلى أسماك القرش.
بعد الظهر من نفس اليوم والذي كان وقتا حرا بالنسبة لمجموعتنا، ارتأيت أن أستغله في زيارة أشهر ميدان في استمبول، وهو ميدان تقسيم، الذي شغل العالم لفترة من الزمن وذلك على إثر المظاهرات التي استغلت هذا الميدان قرابة شهر أو أكثر من طرف أحزاب المعارضة على إثر قرار حكومة أردوغان إحداث إصلاحات بهذه الساحة التاريخية، والتي لا تختلف في شيء عن بعض الساحات في مدننا المغربية، ولكن الهالة الإعلامية والصخب الدولي أعطاها أكثر من حجمها، أهم ما يميز هذه الساحة النصب التذكاري ذو الأربع واجهات، والذي تمثل كل جهة منه جزءا من تاريخ تركيا، (جزء يبرز أتاتورك مع بعض وزرائه، وآخر يمثل جيوشا عثمانية…).
يتفرع عن هذه الساحة عدة شوارع أهمها شارع الاستقلال الذي يمتد على كيلومترين، يمكن للزائر أن يقطعه بواسطة ترامواي قديم يعود إلى العصر العثماني، ويتحرك ببطء شديد قاطعا الشارع جيئة وذهابا..
عدنا إلى الفندق بعد غروب الشمس وحاولت أن أنام باكرا، لأننا في الغد سوف ننطلق في رحلة طويلة برا وبحرا لنغوص قليلا في العمق الأسيوي.

ذ: أحمد الأشهب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>