افتتاحية – في ذكرى مولد خير البرية


تحُلّ بنا هذه الأيام ذكرى مولد المصطفى ، الذي أرسله الله تعالى بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ختم به الرسالات، وأكمل به شريعة الإسلام، فكانت بعثته رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين.
وكلما حلّت هذه الذكرى العطرة إلا وتجدّد الجدل بين فئات من الناس ما بين مؤيد للاحتفال بالذكرى ومنكِر لها، وكأن الاهتداء بسنة خير البرية محصور بجدران من حديد في هذه الذكرى.
وفي كل الأحوال تمر الذكرى، وكأَنْ لا ذكرى، وكأنَّا أدّينا ما علينا من حقوق المصطفى بضرورة اتباع نهجه وسيرته، والعمل بسُنّته وشريعته، كأنَّا أدّينا كل ذلك بمحاضرة تُلقى هنا أو هناك عن شمائله وهديه، أو بنشيد يُنشد ذاكرا فضائله وخلقه، أو حركات قد تكون راقصة موهِمة بمحبته واتّباعه، ثم تمضي الذكرى، وكأنا لم نقُل شيئا؛ ننسى كل شيء، لا لشيء إلا أننا نقول مالا نفعل.
نعم هنا مربط الفرس؛ ربط القول بالعمل؛ ذلك الربط الذي يعد مبدأً قرآنيا أصيلا ظاهرا من خلال قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾(الصف: 2 – 3) وقوله عز وجل مُخاطبًا بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: 43).
إنّ ما نقوله في ذكرى مولد خير الأنام ينبغي أن يكون شعارنا قولاً وفعلا في سائر الأيام، لتكون هذه الذكرى وغيرها من الذكريات مناسبات سنوية ننظر فيها إلى أعمالنا ونحاسب أنفسنا فيما قدّمناه من أعمال وما حققناه من نتائج لصالح أنفسنا أولاً، إذ لا تزِر وازرة وزر أخرى، ثم ما أنجزناه لصالح ديننا ومجتمعنا ووطننا وأمتنا والإنسانية جمعاء. وبذلك لا تكون الذكرى عبارة عن يوم أو أيام محدودة تكثر فيها الأقوال، ثم تصبح صيحة في واد، وإنما عبارة عن حياة نحياها في كل وقت وحين، مستلهمين فيها هدْيَ المصطفى في كل جوانب سيرته: في يقظته ومنامه، في أكله وشربه، في بيته وبين أصحابه، في سياسته وعدله، في رحمته وتواضعه، في صدقه وحسن تعامله، في فضله وبِرّه، في بناء مجتمع الإسلام ودولته، في كل خُلقه الذي وصفه رب العزة بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4).
نعم جميل أن نتذكر الذكرى وأن نرفع شأنها بكل ما استطعنا، فعصرنا عصر إعلام، وبفضله كنا أفضل الأمم، لكن أجمل من ذلك وأفضل أن تبقى هذه الذكرى على مدار الأيام حية في ضمائرنا وعلى ألسنتنا وفي أفعالنا، لأننا أيضا في عصرٍ لم يبق للكلام فيه موضع إذا لم يُصاحبه عمل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>