أيسر القواعد لبلوغ أنبل المقاصد – الطبّ حفظ صحة برءُ مرض، دون إرهابٍٍ للمريض ولا شَتمٍ للمرض (2)


• السب طب الشيطان والشتم سلاح الجبان :
بسطنا القول في القسم الأول من عرض هذه القاعدة الاستراتيجية في كُنه الطبّ السليم لإصلاح الأفراد والمجتمعات، ونركّز في القسم الثاني على علل انقلاب الطبّ لمرض حين إرهاب المريض أو شتم المرض.
فالسبّ والشّتم لأي كان ليسا من شيم النبلاء، والمسلمون من أخيرهم، والأحاديث في النهي عن سبّ وشتم الأشخاص كثيرة لا يخلو بعض ما اشتهر منها على الألسن من ضعف، نورد بعض ما نحسبه صحّ منها موجزا للفائدة: فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (كتاب الحدود، الحديث 6777) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أُتيَ النَّبِيُّ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: «اضْرِبُوه»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ».، وفي لفظ له (الحديث 6781): فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ.»
وأخرج الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : «لا تسُبّوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدّموا».
وروى الترمذي وغيره، عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه : «لا تَسُبُّوا الرّيحَ، فإنْ رأيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ فَقُولوا: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرّيحِ وخَيْرِ ما فِيها، وَخَيْرِ ما أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الرّيحِ وَشَرّ ما فِيها وَشَرّ ما أُمِرَتْ بِهِ».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة . قال: قال رسول الله «قال الله عز وجل: يُؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر! فلا يقولنّ أحدكم: يا خيبة الدهر! فإني أنا الدهر أُقلب ليله ونهاره. فإذا شئت قبضتهما».
فلو تابعنا ما نردّده ونلوكه لغواً بألسنتا يوميا لوجدنا أننا نُكثر اللعن والسبّ والشّتم للدنيا ومن يديرها ممن حولنا، واليوم الذي طلعت عليه الشمس، والزمن الذي عرفنا فيه من نكره ونذم، وغير ذلك من المنهيات التي تشغلنا وتصرفنا عن الواجبات، فالحمد لله الذي برحمته عفا عن اللغو في الأيمان: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (البقرة:225)، ودعانا لضبط الكلام والبر والتقوى وحفظ اللسان: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة:224).
وغاية ما نريد التنبيه عليه والإشارة إليه مما سُقناه من آيات وأحاديث للدلالة على هذه القاعدة هو أننا مسؤولون عن ضياع فرص لبناء الغد بالانشغال بسبّ المنكر بدل النهي عنه وتغييره وإحلال المعروف محلّه؛ فالله عز وجل يلعن من الظالمين من عباده من يشاء، ويلعن رسوله من يلعن ليبين درجة المعصية واستحقاقها اللعنة، ولا معنى أن نفهم نحن من ذلك وجوب أو جواز اللعن للملعون أصلا، فهذا انصراف عن المقاصد للانشغال بما لم نُؤمر به.
• لو كان في السب إفادة لكان شتم الشيطان عبادة:
فلو كان حقا علينا أن نسبّ أعداء الله لسنّ لنا الشرع ورداً خاصاً نتقرّب به لله في سبّ إبليس ولعنه، علما منا يقينا وبنصّ القرآن أنه ملعون، وأنه عدونا الأكبر بلا خلاف! فلا يوجد في أورادنا الصحيحة عن النبي الصباحية أو المسائية أو الخاصة لعنُ إبليس ثلاثا أو عشرا أو ثلاثين أو مائة!! لكننا مأمورون أن نكتفي سلاحا في وجه هذا العدو اللذوذ باللجوء للرحمن جلّ وعلا فنستعيذ به وهو السميع من الشيطان الرجيم استجابة لقوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه سميع عليم (الأعراف : 200)؛ وقوله سبحانه : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (النحل : 98).
وهذا درسٌ استراتيجيٌ بليغٌ في مواجهة الخصم ومعرفة جوانب ضعفه وأفتك الأسلحة به، فهذا العدو الشيطاني يتميّز عن غيره من الأعداء بمواصفات لو توفرت في غيره من الإنس لطغوا وبغوا بشكل يفوق ما قد يُتخيّل منهم وقوعه، أهمهاُ :
• أنه ثابت العداوة شديدُها لا يلين فيها مثقال ذرة، فلا مطمع معه في تفاوض أو تصالح ولو مؤقتا.
• أنه مُكّن استجابة لطلبه الذي أملاه كبرياؤه من البقاء حيّا إلى يوم البعث، فلا مسوّغ قطعا لقتله أو امتلاك سلاح لإبادته.
• أنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، فهم متفوقون في هذا الجانب أيما تفوّق، ونحن مكشوفون أمامهم لا سبيل لإدراك حركتهم، ولا لمعرفة أعدادهم، ولا الإحاطة بتفاصيل مكرهم.
ومع كلّ هذه الامتيازات الاستراتيجية الضّخمة، نملك الأسلحة الفتاكة لهزيمته ورهطه، فالانضمام لأهل الإيمان يقطع عليه الطريق فلا يجعل له ولا لقبيله على المؤمن صدقا سلطانا، والاستعادة بالله تدحره وتهلكه وتوقع بكيده أشنع الهزائم، فهي والبسملة والتسبيح والتهليل والذكر وتلاوة القرآن السّلاح الفاتك بالأعداء أيا كانوا إذا ما صاحبها العمل الصالح إيماناً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، مقروناً بالخلق الحسن والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
وهذا منتهى الحكمة في التعامل مع العدو وتحديد مناطق ضعفه وركائز مواجهته، ولك أن تسقري واقعنا المزري فتلحظ كم حاكم يدّعي صولة الثورة والصمود عبر الإكثار والجهر بسبّ الولايات المتحدة، وهي تنحاز للصمت لا تبدي ردّا عليه، ولكن ما يلبث أن ينكُس تحت سلطانها ويخنع لجبروتها، ويظهر عيانا انصياعه لأمرها، ليس لقوة قاهرة فيها يستحيل مقاومتها، ولكن لضعف به ونفاق يعتريه، تجلى في مناصرته السرية لها، والإسهام الصامت في مكرها، رغم كثرة سبّه وتواصل شتمه، إنكاره لا يتجاوز اللسان ومقاومته لا تحرك البنان، وهو يرى بل يساهم – رغم إظهار السب وإكثار اللعن – في إضعاف شعبه واستلاب أرضه!
• وما شتم ظلمة اليهود بمانع جورهم من الوجود :
وترسيخا لهذه القواعد التي حررناها لا نريد بها معاذ الله إبراز عضلات في الصياغة أو ادعاء مهارة في التقعيد، وإنما لنقرب للناس أدوات عمل نزعم أنه قد يتحقق لمن فعّلها بإتقان لون من الخير النافع بإذن الله في بحر لجي من المشاكل والعقبات والظلمات، نقصد بتقعيدها المسجوع سهولة الحفظ وسرعة الاستحضار، وإظهارا لأهميتها نضرب المثل بما نسمعه مرارا ردّا على التنكيل بإخوتنا في فلسطين السليبة من لعن لليهود وأتباعهم، ودعاء عريض بأن يقطع الله نسلهم ويريح الأرض منهم!
وهذا ليس بالأمر الجديد، فعديد من الدعاة والخطباء والغيارى من الشباب المسلم بشتى بقاع الأرض يردّدون قريبا من ذلك، وقد يجد البعض في تكراره فرجة للنفس، وتخفيفا من المعاناة أمام الجبروت اليهودي والظلم الصهيوني، وأنا لا أسعى لتبرئة ظلمة اليهود، ولا لتجميل صورة الصهاينة، وإنما أتساءل من منطلق الشرع والإيمان بمشروع واضح المعالم في الكتاب والسنة لمن رام عدم الفساد في الأرض: هل صرف الجهد لذلك جزءٌ من مهام المؤمن؟ وهل إذا كنتَ موقنا بأنه ليس في الأرض قطرانٌ أبيض، كان لزاما كلما ذكرت القطران أن تصفه بالأسود؟
وما دمنا لا نتحمّل وجود عدوّ لنا بالأرض، نؤمن يقينا أن الله لم يخلقه عبثا، وأنه عز وجلّ خلق كل شيء بقدر، وتقدير قويم وميزان عادل، بل أنذرنا أنه لعداوته الراسخة لن يزال يقاتلنا حتى يردنا عن ديننا إن استطاع، وأمرنا أن نبرّ من أتباعه من لا يقاتلنا في الدين ولا يخرجنا من الأرض ونُقسط له، واعداً لنا إن أُتقن منا الإعداد وصدق منا الاستعداد أن يُنعم علينا بوفير الإمداد، فما دمنا لا نطيق وجوده ونتمنى زواله، أليس الأولى بنا أن ندعو الله ونبتهل إليه بدعوات عريضة مسترسلة أن يهلك عدونا الأول إبليس؟ وأن يريحنا جلّ وعلا من كل شيطان رجيم؟ فما دمنا نبيح لأنفسنا الخوض فيما لم نؤمر به، ولسنا بمساءلين عن عمل وفجور أهله، ألا يكون مثل هذا الدعاء الفجّ وقتذاك مشروعا؟ أو لا نستزيد منه ادعاء منا عبثا التأسي بسيدنا نوح عليه السلام فندعو الله أن يزيل الباطل كلية من الأرض فلا نلمس له في واقعنا أثرا؟ ويُبيد الظلمة والطغاة والمجرمين فلا نسمعُ لهم في حاضرنا ركزا؟
إن مثل هذه الثقافة ومثل هذا النوع من الفكر ضارٌ بما نريده من الإصلاح، ويجعلنا خارج خطاب القرآن وسنن العزيز الرحمن، لأنه يغيّبُ السنن ويضخّمُ الفتن، ويمنعُ مشاريع الإصلاح من أن تسير وفق شروط السنن ومساقاتها، ويشغلنا عن ما يلزم حقيقة أن نجنّد أنفسنا له عبر التزود بالتقوى، وصقل الإيمان، والعمد لتفعيل العمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والذي يتجلى أساسا في العناية بأصوات الحق المزهقة للباطل وقبيله، والرعاية لراجمات الحق الدامغة لرؤوس المنكر والناسفة لعتاد جموعه.
• نوحٌ دعا ربه لكفار قومه بالإبادة، لكن بوحي:
وسيردّ علينا البعض بأن الله عز وجل لعن الظلمة والمفسدين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن نوحا عليه السلام قال في دعائه الذي ذكرناه آنفا والوارد في سورة نوح (الآيتان 26 و27) : وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، وأننا قدوة به جاز لنا أن نسأل الله أن لا يذر من اليهود ديارا، فما لك لا يروقك ذلك وهو منصوص عليه في الكتاب؟
وأجيب : إن سيدنا نوحا لم يفعل ذلك ولم يدعُ به إلا لما أطلعه الله على الغيب بأن مستقبل هؤلاء لا خير يرجى منه، وأن دوام الحياة لكفرة قومه لن يتأتى منه نفعٌ يضاف لأهل الإيمان، وأن سنة الله قد قضت أن يجعل بعد العسر يسرا، لا أن تضيع الأوقات فيما قدر الله من عمر الإنسانية في توالي الفساد وتنامي الكفر واشتداد العسر. يقول الله عز وجل: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (هود: 36-37)، فالآيتان تتضمنان افتتاحا بخبر واختتاما بخبر، وبينهما أوامر ثلاثة لا يستطيع تنفيدها إلا أولي الحزم والعزم من الرسل، ولهذا كان نوحٌ عليه السلام أولهم، لا بأس أن نتناولها بنوع من التفصيل دون إطناب، ففي محطاتها دروس تطبيب نحن أولى باستيعابها والاستفادة منها:
• فالخبر الافتتاحي: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدَ آمَنَ ، خبرٌ مهولٌ بالنسبة للرسول الذي لم ييأس من روح الله، ولبث في الدعوة له عزّ وجلّ بشهادة الله له ألف سنة إلا خمسين عاما لا يكلّ ولا يملّ، يردّد القول رغم الآذان المؤصدة والاستهزاء المستمر كما عبّرت عن ذلك بتفصيل سورة سميت باسم الرسول نوح ، ومصيبةٌ بل عذابٌ شديدٌ من الله أن يضيّع القوم فرص نجاتهم ونجاة ذرياتهم فيفوتهم أن يخرج من نسلهم من عسى أن يهتدي فيكون باعثا لهم على التوبة، أو محفزا لهم بحسن سمته وقويم سلوكه وشدّة عطفه للإقبال على الله وتدبر آياته، أو يكون لهم فيه أمل شفاعة لدى الناس، ولسان ذكر في الآخرين، أن تركوا فيهم ذرية من أهل صلاح وإصلاح!
• والخبر الختامي: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ، وهذا لونٌ من العذاب لم يسبق أن عهدته الأرض، يوحي بأنها ستشهد طهارة شاملة يمحى بها الكفر قاطبة، تُنشّأ بعده الإنسانية على درب جديد وعهد وليد ليس فيه من أهل الباطل أحد، مع ثقل الأمانة في بنائه وترسيخ قواعده، علم الله جلّ وعلا وقعها على نفس نبيه فطمأنه بالسلام والبركة بقوله: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (هود: 48)،
• والأمر الأول: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون ، وابتأسَ الشّخص حَزِنَ واكتَأَب واغتمّ، وليتصور أحدنا أنه نبّه للخطر يستشعر قدومه جماعة، أو فردا واحدا، ينذره ويحذّره ويدعوه للتعجيل بالسعي للسلامة، والمنذَر لا يبالي، بل يسخر ويشتم، ألا يعتريه حين حلول ما أنذر به حزنٌ أو اكتئابٌ أو غم؟ فكيف إذا أُمر أن لا يصدر عنه شيء من ذلك؟ قال فخر الدين الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»: «إن نوحاً لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة، ولذلك قال تعالى من بعد: فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون أي لا تحزن من ذلك، ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة، فإن الدين عزيز، وإن قلّ عدد من يتمسك به، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.»
• والأمر الثاني: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وهذا أمر ضلّ في فهمه جمعُ من المفسرين ومن عانق رؤاهم من التابعين، وداؤه في تهوين جليل نصّ القرآن وتعظيم صنع الإنسان، وأصلٌ لفاسد الطب للمجتمع، وتفاقم لأمراض عجزه عن النهوض بعلمه وصقل عقوله، لأن الله حين قال وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ذهب هؤلاء إلى أن سفينة نوح هي تجميع ألواح بحبال أو مسامير خشبية تمكّنها من أن تطفو على الماء لتسير بأمر الله، متغافلين عن المهارة الفائقة في ابتكار السفينة التي صمّمت أولا بوحي الله، ومن ثم فهي لن تُنال صنعة ولو من أمهر المهندسين في أي زمان ومكان، وتشكلت بعين الله، فلن تضاهيها أي سفينة على مدى الدهر مهما تقدم العلم وتوسّع الاختراع! فهي من ألواح ودُسر، لكن حين خضعت لمهارة الصانع بوحي الخالق نتج عنها شيء لو تشكّل لنا عيانا لرأيناه يفوق الخيال، ولشهدنا أنه من صُنع الإنسان محال.
نقول هذا تنبيها لما تحشره الأفلام الكرتونية ولُعب الأطفال الإلكترونية والقصص والمسلسلات المسلية في أذهان المستهلكين على مختلف أعمارهم من تهوين لأمر السفينة، وأنها على شاكلة ما صنعه الإنسان في حقبة تاريخية متقدمة، مما جزّأه غباوة بعض أدعياء العلم من الزمن، جعلوا الآدمي فيه يرقى تصاعدا وعلى خطوات من الحيوان إلى الإنسان، بيد أنه أول ما خُلق كان في أحسن تقويم، لن يرتفع إلى مثله مدى الدهر إلا بالإيمان والعمل الصالح، وإلا فهو هاو أسفل سافلين، وإن علم ظاهرا من الحياة الدنيا وادّعى جهلا أو غرورا أنه من المتقدمين!
فسفينةٌ جرت بنوح ومن معه في موج كالجبال وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَال (هود: من الآية 42) هل تضاهيها سفينةٌ مما علمنا ورأينا وما لم نر ولم نعلم من السفن؟ نحن رأينا السفن في تسونامي اليابان تجرفها الأمواج إلى البر أو تضعها على سطوح الأبنية، وعلوّ أكبرها وأخطرها عشرون مترا، فهل يدرك الناس ضخامة علوّ الجبال؟ فلفظ الجبال في الآية مطلق، لا يستثني جبل إفرست وغيره من المثال، أي أن علو أمواج بحر الطوفان حين التشكل كان يزيد عن 7000 متر! فهل ينفع لمقاومة تياراته تجميع ألواح؟؟ وقلنا «حين التشكل» لأن تواصل تهاطل الماء من السماء، واستمرار انفجاره من الأرض جعل السفينة غواصة حين التقى الماء! فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (القمر: 11-12)، فهل تُراها كانت سفينة عادية؟
بل هي سفينةٌ من صُنع الله، تمخُر الماء وتُقاوم دخول الماء وتغوصُ في الماء، وما كان الله الذي أتقن كل شيء صنعه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (النمل: من الآية 88) أن ينوّه بالسفينة كآية وهي من النوع البدائي الذي يتخّيله الغافلون ويزدريه المتردّدون! فالله إذا قال في الشيء آية فهو مُعجز لا يُضاهى ولا يُحاكى، بل أنعم الله على الخلق إذ قال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (يس: 41-42) فجعلهم بخلق وجعل منه يتنافسون في الابتكار، ويتبارون في إتقان الصّنعة يشيدون سفنا مثل ما صَنع نوح تمخر الماء مثلها، لكن يستحيل، وهي من صُنع الناس بإلهام لا بوحي، أن تصل إلى المستوى الراقي والمثالي لما صنع نوح!!
ولقد عاشت الأمة عصورا من الانحطاط ممتدة الزمن بعد اقطاعها التفاعلي مع القرآن تردّد أساطير اخترعها دُهماء بني إسرائيل وغيرهم من أدعياء العلم، تفصّل في عرض وطول وعدد ألواح ومسامير السفينة، وعدد من ركبها من الدواب والأنعام والوحوش، بل تعرض تفاصيل شروط بعض الخلائق للركوب ومتطلبات استجابتها، مع ذكر نباهة أدهاها إبليس حين تمسّكه بذيل الحمار آخرها ركوبا ليسأله نوح بعد الولوج خلسة من أدخله السفينة!! وغير ذلك من المتاهات والحماقات التي تضمنتها بعض التفاسير نقلا عن «قناة أخبار خيالية» تزعم النقل الحي لوقائع زمن نوح، لا تضاهيها في الكذب والسفه إلا ما يُستجدّ لهوا أو سفها من أساطير زماننا السنيمائية والخرافية!!
ونحمد الله الذي جعلنا من ذرية من آمن مع نوح ولم يجعلنا حضورا في قوم نوح! لأننا لو رأيناه يبني السفينة في مكان لا بحر فيه، وبعجيب تصميم لم نعهده لا في الأولين ولا في الآخرين، لأوشكنا أن نكون ممن قال الله فيهم وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (هود: 38)!! فليس سهلا أن يرقى الإنسان مهما ارتفع علمه إلى تنفيذ صنعة الله بوحي الله، ولا أن يصبر على أذى وسخرية من يعجب من ذلك من خلق الله! ولو قدّر لي افتراضا وأنا العبد الضعيف أن أكون مرافقا لأحد ممن آمن مع سيدنا نوح مع خبرتي الطويلة في الهندسة – والحمد لله أن أنعم عليّ أن أكون حيث اختار لي عزّ وجلّ أن أكون – لما تجاوزت صبرا ولا قاومت عجزا يوما أو بعض يوم، ولما سلمت – إلا أن يلطف الله – أن أكون من المتشككين، فكيف بالسنوات الطوال من الدعوة والمقاومة والصبر والعزم والحلم!!
• والأمر الثالث: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وهذا الأمر الإلهي سدّ الباب في وجه سيدنا نوح في أن يدعو الله لقومه بالتوبة والهداية، أو أن يشفع لهم عنده جلّ وعلا فيمهلهم أزمنة أخرى لعلهم يرجعون. وخوفا من مثل هذا كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول «شيبتني هودٌ وأخواتها»، وأخواتها السور التي فيها ذكر معاناة الأنبياء وهلاك الأمم (الحديث حسّنه الترمذي، واطلعت على بحث موثق ضعّفه فيه صاحبه لمعارضته لحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك أن النبي قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء). فسيدنا نوح مُنع بأمر إلهي من أن يخاطب الله في قومه عفوا أو مغفرة أو هداية منبئا أنهم مغرقون، فلم يبق له إلا أن يسأل الله إزالتهم كلية حتى يتوقف الفساد مادام ليس للصلاح فيهم نفاد! ذلك دعاء نوح وتلك ما نحسبه دوافعه وأسبابه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول اللّه : «يا رسول اللّه هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منه يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني، فقال: إن اللّه قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن اللّه قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال رسول اللّه : بل أرجو أن يخرج اللّه من أصلابهم من يعبد اللّه لا يشرك به شيئا.»
هذا يقوله إسوة برسوله كلّ من له مشروع إصلاح مستقبلي يؤمن بإمكانية تجليه، وليس له في علم الغيب ما يمنع من تحققه، ولا سبيل له لوحي مثل ما أوحي لسيدنا نوح يُنبئٌه ببوار كفار قومه! ففرق كبير أن تعُدّ العدّة وتستجمع وسائل النصر ثم تدعو الله أن يُعليَ دينه ويهزم على يدك أو غيرك من يعاديه ويمنع ظهوره، وأن يكون همك وأغلى أمانيك زوال هذا العدو من الأرض إلى الأبد لكي تستريح أنت من كل ما هو مطلوب منك من العدّة والإعداد، أو تكتفي بالسب والشتم واللعن متسارعا إلى الرقاد!
• من حسن الطب عدم الاعتداء في الدعاء:
فنحن حين ندعو الله سبحانه، لا بد من التقديس والتقدير والتمجيد للذي ندعوه عزّ وجلّ، فلا نعتدي في الدعاء، ولا نسأله إبطال سننه، لتمشي الأرض على ما يخيل إلينا أنه سليم الحال وقويم المآل، فلم يبطلها جلّ علاه لأحد! أو لا نفرح ونقنع بما سنّه ربنا سبحانه من سنن راسخة دائمة منطوقها النصر للمسلمين والدفاع عن المؤمنين؟ ألم يعد تبارك وتعالى بالفوز والنصر من تولاه وتوكل عليه؟ ألم يقل عزّ من قائل: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (النساء: 141)، وما كيد الكافرين إلا في ضلال (غافر: 23)، ذلكم وأن الله موهّن كيـد الكافرين (الأنفال: 18)، ويحقّ الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون (يونس : 82)، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون (الأنفال:8)، إن كيد الشيطان كان ضعيفا (النساء : 76)، وقل جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا (الإسراء : 81)، إن الله يدافع عن الذين آمنوا (الحج: 38)؟ هل بقي لنا بعد هذا في المواجهة من شيء إلا بذل المستطاع إعدادا، وجميل التوكل استعدادا، وخالص الدعاء أن يثبت الله أقدامنا وينصرنا إمدادا؟!
ألسنا نتعظ بما قال نبينا نوحٌ لقومه لما جاءوه مهدّدين وظلوا منه ساخرين؟ هل قال لعنكم الله وأبادكم ومحا الأرض من أمثالكم، أو سبّ وشتم ولعن؟ ألم يرفع التحدي بالحكمة ورام إلى الحق بالعصمة كما هو في سورة يونس (الآية 71): واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ؟
فهذه الألفاظ البليغة الحاسمة لا يقولها إلا الواثق في الحق القوي بالحق، ولم يدعُ دعاءه بالإبادة إلا بعد أن استيقن وحياً أن لا طائل من الدعوة في مثل قومه، بعد أن استفرغ الجهد بكمال وإتقان كما هو مبين في سورة نوح لتبليغ الدعوة وأداء الأمانة وبيان الرسالة، بل قضى بينهم من العمر ما يسمح له على تواصل الجهد والطمع في النجاح باليأس! فألف سنة إلا خمسين عاما ليست بالزمن الهين حتى بالنسبة للأمم والدول، وعمر احتلال فلسطين لا يزيد على الخمسين التي بقيت لتمام الألف إلا قليلا، ومع ذلك يدب فينا التقاعس للإعداد، وتسري في صفوفنا الغفلة عن الاستعداد، فأنى يكون لله منا الإمداد، إلا بلطف منه ورحمة، وإبعاد عذابٍ وتحصيل مغفرة. أو لا يجدر بنا وقد لاحت أنوار فجر الانتصار، ونهار الفخر يُسلخ سراعا من ليال القهر، والباطل يرجفُ من قرب الزوال، رغم توالي المحن واشتداد الفتن، أن نسارع للحق وتقوية منابر الحق؟؟
• قويمُ الطب التمسك بالحق والاستثمار في الحقُ:
فالحق موجودٌ مدوّن محفوظ، لكن أين من يستدعيه ويقذف به الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق؟؟ فمثلنا مع الحق كالمثل الوارد في الذكر الحكيم: كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه (الرعد : من الآية 14). فمن مسلمات الإيمان وثوابت الإسلام أن الباطل زهوق، وكيد الشيطان ضعيف، ولكنّ عللنا الكبرى في ضعف الإيمان بقوة الحق، والإمساك عن الإنفاق في سبيل تقوية منابر الحق وأهل الحق، والانشغال عوض ذلك بالباطل وشتم فعله ولعن مكره، وتصوّر بعضنا أن سب أهله وشتم أفعالهم مهوّن عن النفس شيئا، أو مغيّر طرفا من خططهم، أو معطّل جانبا من مكرهم.
وأصل الدّاء في أوساطنا غياب العناية بالقرآن والرعاية للقرآن؛ فبعدنا عن القرآن وبيان القرآن قد أفقدنا ضوابط الميزان! فلكم رأينا وشاهدنا ألوانا من الفتك والتنكيل بالإنسان، الإنسان المسالم البريء أيا كان، ولم يهتز لدينا الكيان، ولا قاومنا بل ولا أشرنا للمجرم بالبنان، وقد يمسّ الحائط مما نقدسه من البنيان، فننفعل أقوى من صمتنا حين المسّ بالإنسان، بل كثيرا ما نلوم المعتدَى عليه في إثارته للمعتدِي، وقلّ أن نمدّ له يدا بإحسان! حتى أمسى طبيعة أن نتهم المظلوم – حين مطالبته بالحق – بإزعاج الظالم، منبهين إلى أن حركته هذه في غير محلها ووقتها، ويفتي من يُدعى – أو يدّعي – أنه المفتي أن الحلّ الحكيم هو في الصمت عنها والامتناع عن تناولها إلى أن يتجلى زمنها.
لكن حين يحذرنا من رام هلاكنا، من خصام نشب مكراً بين أبنائنا، ببقعة ما من أرضنا، هو وراء إذكاء ناره وتهييج لهيبه، ننزعج ونولول، ويفتي ذات المفتي بضرورة الاستجابة لنصائح صاحب التحذير، وتلبية ندائه، عبر السماح له بالضرب والحرب، والوقوف جنبه باحتلال الأرض، وتأديب من ادعى أنه المشاغب، والفتك بالمتمرد، دون دراسة للعواقب، أو جدّ في إصلاح وتهذيب من شاغب فعلا وتمرد، أو العمد للإصلاح والصلح، وترسيخ قواعد العدل وإقامة موازين القسط.
ذلك أننا في تطبيبنا لمرضنا اختلطت لدينا المعايير إلا من رحم الله، وتمازجت في الأذهان مواصفات الدواء وصفات الأدواء، وأصبحنا نصغّر كبيرا ونضخّم صغيرا، ولا نميز بين تهويل فرع وتغييب أصل، لولا زمرة عليهم المعوّل وفي جهدهم واجتهادهم الأمل، أما السبّ والشتم للمرض، والانزعاج من جرح بسيط بالبنان، مع عدم انتباه لما يكاد يُسكت القلب أو يُغيّب العقل أو ينفي الوجدان، فهذا منا هو الجهل المركب بالداء والدواء على السواء.
ومجمل القول مُضيُّ من هو على نور من الله في توطيد عرى مجده، وتأكيد عزه، وترسيخ دينه، وحماية أرضه، وصناعة غده، ومواجهة عدوه، لا يخاف في الله لومة لائم، لا يصنّف الناس ولا يُرهبهم، ولا يلعنُ رجالهم ولا يكفّر ضالهم، نهجهُ الإتقان والحكمة، وإعمالُ الحلم والعلم في إخماد سطوة الظلمة؛ ثم انزعاج من لم يُعر لشروط البقاء بالا، ولا بذل في حقول صادق النماء مالا! يرى أن المساس بنهج عليل قد يجرّ على الأمة الهمّ الثقيل، وأن التمسك بوضع غشوم خير من فتنة تدوم، وأن وجود فلان بلية، وبقاء علاّن مزية، وغير ذلك من مبررات تزكية الواقع الهشّ المنخور بالمنكر، عبر التخويف والانزعاج من تحوّل مشاريع إصلاحه إلى شرّ مُستطَر!!
وغير غريب انزعاجُ من لم يَبق عليه من الثياب – بعدما رمى تقليداً أجملها، ونزع عنه حداثةً أسترها – إلا جوربٌ في رجله اليسرى، مزهوٌّ بذاته مطمئنٌ لحاله حريصٌ على جوربه قد شغله طول الافتتان بالغير عن ستر عورته الكبرى! فتلك هان أمرها وقلّ لومها، إذ أضحى بتوالي الأيام يألف كشفها الخاص والعام، أما غياب الجورب فخطيرُ المقام وابتلاءٌ بالعري التام! وليس من العجب، باعتقاد رأيه الأصوب، أن يظلّ همّه الجورب !!!

د. محمد بريـش

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>