المواطنة في الأفق السياسي للسيرة النبوية


د. عبد المجيد النجار *

تـوطـئـة:

اتّجهت الدراسات في السيرة النبوية قديما وحديثا إلى أن يكون محور بنائها قائما على الغزوات العسكرية، وحتى حينما أضافت بعض الدراسات الحديثة فقه السيرة عنصرا من عناصر الدراسة فإنه بقي عنصرا مندرجا ضمن البناء العامّ القائم على عرض الوقائع العسكرية في السيرة النبوية.

وقد كان لهذا المسلك التأليفي في السيرة النبوية قصور بالغ في استفادة المسلمين منها وهي الزاخرة بالحياة في جميع وجوهها، وهي الوجه العملي الذي يتجلّى فيه تنزيل أحكام الوحي على الواقع، فحُرم إذن المسلمون طيلة عهود من مصدر على غاية من الأهمّية يُنير سبلهم في فهم الدين عموما وفي تنزيله على وقائع الحياة خصوصا.

ولم يكن الفقه السياسي في السيرة النبوية بأكبر حظا في دراسات السيرة من غيره من فروع الفقه بالرغم من أنّ الغزوات العسكرية التي كانت المحور الأساسي الذي انبنت السيرة عليه توحي بأنها وجه من وجوه الممارسة السياسية، إذ هي تهدف من بين ما تهدف إلى تأسيس الدولة وإقامة الحكم على أساس من الدين، فقد كانت تلك الغزوات المعروضة تخلو إلا قليلا من الاستنتاجات المتعلقة بالسياسة الشرعية.

ومن المعلوم أنّ العالم الإسلامي والعربي منه خصوصا يمور اليوم بحراك سياسي واسع، والذين يحملون الفكرة الإسلامية يمثلون أحد العناصر الأساسية فيه، ولكن زادهم في الفقه السياسي الشرعي زاد ضعيف، وهو الأمر الذي يتطلب منهم فيما يتطلب أن يفزعوا إلى السيرة النبوية ليبحثوا في آفاقها الثرية عما يثرى به هذا الفقه فيكون لهم عونا في هذا الحراك السياسي الذي هم طرف فيه، علما بأنّ في السيرة النبوية من فقه التنزيل للأحكام المجردة على الواقع المعقد في الشأن السياسي عونا كبيرا على ترشيد المشاركة السياسية للأطراف التي تنشدها من منطلق الفقه الشرعي.

ومن المفاهيم التي أصبحت محلّ جدل في هذا الحراك السياسي مفهوم المواطنة كأساس من أسس الدولة، وأصبحت الدساتير التي تعدّ لبناء الدولة الجديدة تتطلّب تنصيصا على هذا المفهوم، وإذ ليس في فقه السياسة الشرعية الموروث ذكر لهذا المصطلح فقد اقتضى الأمر البحث في هذا التراث عمّا يمكن أن يؤدّي المعنى حتى وإن لم يذكر اللفظ. ولعلّ من أهمّ المظانّ التي تسعف الباحث في هذا الشأن السيرة النبوية التي وردت فيها الخطوات العملية لتأسيس الدولة في المدينة المنورة على أسس يمكن للباحث فيها من خلال آفاقها السياسية أن يخرج بمفهوم شرعي للمواطنة تقع المشاركة به في الحراك السياسي الذي يجري من أجل بناء الدولة الجديدة، وهو ما تحاول هذه الورقة القيام به في نطاق الاستثمار الأمثل للسيرة النبوية بارتياد آفاقها الواسعة تركيزا على مشهدين من مشاهد السيرة النبوية: مشهد وثيقة المدينة، ومشهد حجّة الوداع.

حلّ الرسول الكريم بالمدينة المنوّرة وهو يخطّط لتأسيس الدولة الإسلامية، وقد شرع في هذا التأسيس بصفة عملية بترتيب العلاقة بين مكوّنات هذه الدولة من الأفراد والفصائل والأديان: مهاجرون وأنصار، وأوس وخزرج، ومسلمون ويهود …، ثمّ توّج ذلك المسعى العملي بوثيقة نظرية مكتوبة عرفت بوثيقة المدينة التي تعدّ الدستور المؤسّس للدولة الإسلامية.

ومن خلال هذه الوثيقة المؤسسة للدولة الإسلامية الناشئة يتبيّن أنّ هذه الدولة في المفهوم الإسلامي تقف على مسافة واحدة من جميع الأفراد الذين ينضوون تحتها، تمنحهم نفس الحقوق، وتطالبهم بنفس الواجبات، ولا تميّز بينهم في ذلك بحسب العوارض الذاتية من لون أو دين أو عرق، وذلك ما ينطبق أيضا على المجموعات المتمايزة بحسب القرابة أو المهنة أو السكن أو غير ذلك، فهي متساوية بمقتضى المواطنة في الحقوق والواجبات فيما يتعلّق بانتمائها إلى الدولة.

لقد جاءت هذه الوثيقة تؤّصّل للمواطنة في علاقة الأفراد والفئات بالدولة، حيث جمعت المتفرّق بحسب الانتماء القبلي، والانتماء الجهوي، والانتماء الديني على صعيد واحد بالنسبة للدولة، فالأوس والخزرج، والأنصار والمهاجرون، والمسلمون واليهود كلّهم أعضاء في الدولة على صعيد واحد، يتساوون في المواطنة استيفاء للحقوق وأداء للواجبات، ولا يفضل في ذلك بعضهم بعضا. وتتمثّل تلك المساواة في المواطنة في مظاهر عديدة مادّية ومعنوية.

فمساواة في الانتساب إلى الأمّة والانضواء تحت رايتها لا يتفاوت في ذلك فريق يدّعي شرف الانتساب إليها ويخرج غيره من ذلك، وهو ما جاء في الوثيقة:«وأنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين … وأنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف …» .

ومساواة في التحاكم إلى القانون الموحّد، فقد جاء في وثيقة المدينة: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمد »، فمرجعية التحاكم هي نفسها لكل الفرقاء ممثّلة في قانون الشريعة منزّلا من عند الله تعالى، ومفسّرا من قِبل النبي الكريم .

ومساواة في التمتّع بالحقوق وعلى رأسها حقّ حرية التديّن معتقدا وممارسة، لا يُكره أحد على ذلك، ولا يُمنع في شأنه الخاصّ بل في شأن أحكامه الأسرية والفئوية التي لا تتعارض مع الشأن العامّ للمجتمع أن يتدبّر أمره بحسب خصوصية دينه، وهو ما نصّه في الوثيقة:  «لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم».

ومساواة في أداء الواجبات مالية كانت أو دفاعية، فالكلّ مطالب بذلك على سبيل التكافؤ، وهو ما جاء في الوثيقة منصوصا عليه في خصوص واجب الدفاع بـالقول: «إنّ بينهم النصر على من داهم يثرب»، وفي خصوص واجب الإنفاق بالقول: «وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين».

ومساواة في الالتزامات الخارجية إزاء الآخرين من خارج الدولة، فإذا ما أبرمت الدولة التزاما مع آخرين فالواجب على الجميع احترام ذلك الالتزام والوفاء به، وهو ما جاء في الوثيقة: «وأنّه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن»، وما جاء فيها أيضا: «لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه».

إنّ هذا التساوي الذي تقتضيه المواطنة يبقى هو المبدأ الأعلى الذي يحكم العلاقة بين الدولة وبين مواطنيها، غير أنّه يمكن التصرّف فيه من حيث الشكل مع بقاء المقصد قائما، كأن يتنوّع الواجب المطلوب من الأفراد والفئات إزاء الدولة من أجل حمايتها على سبيل المثال بين الانخراط المباشر في الأعمال العسكرية وبين الاستعاضة عن ذلك بدفع مقابل مالي سُمّي في مرحلة من مراحل التاريخ بالجزية التي تُضرب على المستعفي من العمل العسكري، فإذا ما انخرط فيه رُفعت تلك الضريبة عنه.

———

* الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>