خروق في سفينة المجتمع 48 ـ التطبيع


عندما تطلق هذه الكلمة في واقعنا الراهن ينصرف ذهن سامعها إلى تلك الظاهرة المرضية: النفسية والسلوكية المتعلقة بفتح جسور التآلف والتقارب، مع الكيان الصهيوني الغاصب، على أي مستوى من مستويات الحياة، سياسيا كان أو تجاريا أو ثقافيا أوفنيا أو رياضيا، أو ما إلى ذلك، بما يعني لونا صارخا من ألوان الخيانة لقضية المسلمين الأولى: قضية فلسطين التي اغتصبها اليهود وأقاموا عليها كيانهم السرطاني الغريب، منذ ما يقارب السبعة عقود من الزمن، مستخفين بكل ما تمثله من رمزية وقداسة لأمة الإسلام، وما يحتضنه كل شبر من ترابها من تراث عريق، يمثل قصة جهاد مرير ومجد تليد، وبما تجسده تلك الخيانة من استهتار إزاء مأساة شعب عانى ويعاني من عمليات التشريد والقهر والاستئصال تحت أنظار عالم أريد له أن يصنع على عين الأجهزة العاتية للدعاية الصهيونية المدججة بسلاح المكر والأساطير التي تلبس الحق بالباطل.
والحق أن اقتران لفظ التطبيع بالواقع آنف الذكر في أذهان كثير من الناس، لا ينبغي أن يحجب عنا سعة مفهوم ذلك اللفظ، الذي يتسع في واقع الحال ليشمل اتجاهات نفسية لدى شرائح عريضة من الناس آخذة في التزايد والاتساع بفعل تعاظم الآثار التي تخلفها الوسائط التكنولوجية المتنوعة والمتطورة، والتي تستخدم بشكل رهيب في الاتجاه المضاد للفطرة، والهادف في نهاية المطاف إلى مسخ الإنسان عن طريق تعبيده لهواه، وتضخيم نوازع الشر فيه على حساب الخير والصلاح.
والهدف البعيد الذي تتقصده القوى الرهيبة التي تقف وراء هذا المسعى الأثيم، هو هدم جهاز المناعة وتخريبه على مستوى الأشخاص، كما على مستوى الوعي الجمعي، ليصبح الناس طوع بنان تلك القوى، يتصرفون بلا وعي، وبلا أدنى مقاومة، يؤمرون بالفعل فيفعلوا، وبالكف فيكفوا في مشهد يثير الألم والإشفاق.
إن باستطاعة أي ناقد بصير، أن يلاحظ تجليات هذه الظاهرة المريعة وهذا الداء الوبيل، داء التطبيع، في أي مجال، وفي أي منشط أو سلوك، ولنأخذ على سبيل التمثيل ظاهرة اللباس التي هي من لوازم آدمية بني آدم الذين أمرهم ربهم بأخذ زينتهم وحذرهم من فتنة الشيطان التي يتجلى أحد مظاهرها المريعة والصارخة في تعرية الإنسان وتجريده من زينة اللباس، يقول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأعراف:7)
فلم يعد اللباس عند قطاعات عريضة من الناس، وخاصة في أوساط الشباب، عملية خاضعة للتفكير والاختيار المؤسس على وعي وتصميم ومعرفة بوظيفة اللباس الاجتماعية والتربوية والدينية، وإنما عملية استنساخ وتقليد آلية قائمة بدورها على أرضية من التطبيع الذي ترسخ عبر مكر الليل والنهار، ومن خلال نفث شياطين الإنس في عقد الإنسان المتمثلة في رغائبه ونزواته وأهوائه.
ولتلمح خطورة التطبيع في ظاهرة اللباس في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومنها مجتمعنا المغربي الذي يأخذ بنصيبه الوافر من رياح التغيير العابرة للقارات، ما عليك إلا أن تستحضر صورة نمطية لشكل من أشكال العلاقة بين جيل الكبار وجيل الشباب، تتجسد في التعايش الغريب الذي يحصل بينهم على مستوى إقرار الأوائل ورضاهم عما يرتديه أبناؤهم من أنواع «اللباس» التي تجمع بين النقيضين: التعري والاكتساء، مما ورد ذكره في حديث الرسول عن صنفين من أهل النار، ويتعلق الأمر بـ «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات». ونستثني من هذه الصورة فئة مغلوبة على أمرها، فهي عاجزة عن مغالبة التيار، وتكتفي بالحوقلة والاستلطاف، وبث الشكوى من آخر الزمان، وقد لا تمثل هذه الفئة إلا نسبة ضئيلة إزاء قطاع عريض ممن تبلد إحساسهم أمام الصور السقيمة والأوضاع المنحرفة التي يمثلها مسلك النساء مع اللباس، فهم في حكم من يراه طبيعيا أو مقبولا تحت ذريعة الفهم الفج لمقولة مسايرة الوقت أو العصر.
ويتسع مفهوم التطبيع ليستغرق جملة هامة من السلوكات والممارسات التي تشكل نواقض للقيم العالية التي جاء الإسلام لتنميتها وترسيخها وحمايتها في النفس والمجتمع، من قبيل الرشوة والتعامل بالربا عن طيب خاطر، بل ومن قبيل الغيبة والكذب والنميمة والسخرية والاستهزاء، وقذف الأعراض، وجعل المصلحة الضيقة مقياسا للمواقف والتصرفات، وما إلى ذلك مما يشكل عوامل تمزيق للنسيج الاجتماعي وإتلاف لطاقاته ومقومات القوة فيه.
ونظرا لخطورة التطبيع مع المفاسد والشرور، وكونه خرقا كبيرا يهدد سفينة المجتمع بالتلف والغرق والانهيار، فقد حذر الإسلام من مغبة السقوط في حباله أو الإصابة بجرثومته، ومن الأمور التي نبه عليها القرآن الكريم في هذا المقام قسوة القلب الناجمة عن طول الدهر ومكر الليل والنهار، يقول الله تعالى: َالَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد :57) ويقول جل جلاله: وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (سبا:34)
وتزخر السنة النبوية الشريفة بتوجيهات الرسول في هذا المقام بما يمثل بيانا للرؤية القرآنية الحاثة على يقظة القلب وحيويته الدائمة المفعمة بالصدق واليقين في انتصار الحق والخير والجمال. من ذلك قول رسول الله في الخمر: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وتحذيره في حديث السفينة التي ندندن حولها من الاستهانة بالغفلة عن خطورة ما يعتبره البلهاء أشياء صغيرة، والحال أنها تفضي عند التفاقم إلى الغرق الأكيد، فهل من استراتيجية لمواجهة داء التطبيع الذي يهدم عند استشرائه وتحكمه الحصون والقلاع؟

د. عبد المجيد بنمسعود