المجادلة بالتي هي أحسن أقوم أسلوب لتبليغ الدعوة الإسلامية


إن أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة والتبليغ، يجد أصله وسنده في كتاب الله العزيز الذي وجه كل داعية إلى الله تعالى ومبلغ لدينه إلى اتباعه إن هو أراد النجاح والفلاح في أداء رسالته. فقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت: 46).
يفهم من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى قد سبق في علمه أن دين الحق الذي هو دين الإسلام -رغما عن ظهوره وانتشاره في أطراف الأرض، وإقبال مختلف السلالات والشعوب على الدخول فيه أفواجا- سوف لا ينفرد وحده بالبقاء في العالم، مصداقا لقوله تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (هود: 118). بل إنه ستوجد بجانبه باستمرار أديان أخرى وستحاول أن تنافسه وتتحداه كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولاسيما الأديان الكتابية التي ينتمي إليها اليهود والنصارى.
ووجود الإسلام بجانب غيره من الأديان يفرض على أهله أن يدافعوا عنه في وجه الهجمات المضادة والشبهات بالحجة والبرهان. وللقيام بهذه المهمة على أحسن وجْه، وجَّه كتاب الله تعالى الخطاب إلى كافة المؤمنين ولا سيما المسلحين منهم بسلاح العلم والدين، فقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .
وبذلك أفهم المسلمين أولا أن الإسلام لا يتهيب ولا يخشى من مواجهة خصومه، وأنه لا بد للمسلمين من أن يجادلوا عن دينهم ويبطلوا ما يوجه إليه من الشبه الزائفة والتهم الباطلة، ثم أفهم ثانيا أن مجادلة المسلمين لمخالفيهم في العقيدة والدين لا تكون بأي شكل كان، بل لا بد أن تكون على شكل يؤدي بالخصم إلى الاقتناع والإذعان، وهذا المعنى هو ما عبرت عنه الآية الكريمة إذ قالت: إلا بالتي هي أحسن .
و«التي هي أحسن» وصف للطريقة التي يجب أن يتبعها المجادل عن دينه للدفاع عنه، حيث يختار لجداله طريقة مطبوعة بطابع الرفق واللين لا تشم منها رائحة الغلظة والجفاء، و بالتي هي أحسن هي كذلك وصف للحجة التي ينبغي أن يحتج بها المجادل عن دينه لبيان الحق أحسن إبانة وعلى أحسن وجه من وجوه الإقناع إثباتا للحق ودحضا للباطل، بحيث لا يختار من بين الحجج التي بين يديه إلا أوضحها وأقواها وأسرعها إيصالا للمقصود والمطلوب، وبذلك ينصر دينه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: “لكن يكون الجدال بما يحسن من الأدلة، ويجمل من الكلام، بأن يكون منك للخصم تمكين، وفي خطابك له لين، وأن تستعمل من الأدلة أظهرها وأنورها، وإذا لم يفهم الخصم أعاد عليه المجادل الحجة وكررها”.
وقوله تعالى إلا الذين ظلموا منهم ، معناه أن من تصدى للمسلمين بالظلم والعدوان لا يجادل بالرفق واللين، وإنما يعامل معاملة الظالمين فيحد من ظلمه بما يناسبه من الجدال إلى أن يرتدع عن ظلمه ويرجع إلى السداد. ومن الظلم الاعتداء على الحرمات، والتهجم على المقدسات، وغدر العهود والالتزامات.
وقوله تعالى وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، يتضمن مثالا تطبيقيا لمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن. قال ابن كثير: “إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا، ولا على تصديقه فلعله أن يكون باطلا، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط، وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا”. وتفرد البخاري في صحيحه برواية حديث عن أبي هريرة قال: (كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم»).
وقوله تعالى وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ، معناه أن الخلق كلهم عيال الله جل وعلا، وأن رب العالمين الذي خلقهم ورزقهم إله واحد، وإن كان التوحيد في عقيدة الإسلام -بالنسبة لغيرها من العقائد- هي العقيدة الوحيدة الصحيحة والسليمة من كل الشوائب، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى: لكم دينكم ولي دين (الكافرون: 6). ولذلك قال تعالى هنا تعقيبا على قوله: وإلهنا وإلهكم واحد ، قال: ونحن له مسلمون أي على خلاف ما عليه أهل الكتاب.

د ـ إبراهيم والعيز
—————-
1 – أحكام القرءان، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي. راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه؛ محمد عبد القادر عطا. ط/ 3. 1424هـ/ 2003م. دار الكتب العلمية-بيروت. ج/ 3. ص/ 518. بتصرف يسير.
2 – تفسير القرءان العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. طبعة جديدة ومنقحة، مضمنة تحقيقات العلامة محمد ناصر الدين الألباني. خرج أحاديثه؛ محمود بن الجميل ووليد بن محمد بن سلامة وخالد بن محمد بن عثمان. ط/ 1. 1425هـ/ 2004م. مكتبة الصفا- القاهرة. ج/ 6. ص/ 117.
3 – صحيح البخاري. اعتنى به؛ الدكتور محمد تامر. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة-باب قول النبي : “لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء”. رقم؛ 7362. دار التقوى دون ذكر الطبعة والتاريخ. ج/ 3. ص/ 431.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>