إلى أن نلتقـي – قيمة الوفاء.. والكوكب الآخر


ذكر لي شاب عزيز – حفظه الله ووفقه – أنه في أحد أسفاره ركب القطار مسرعا، فلم يتمكن من أخذ التذكرة من الشباك، وكانت نيته أن يأخذها داخل القطار من عند مراقب التذاكر، رغم أن الأداء داخل عربات القطار يفوق الأداء بالشبابيك كما هو معلوم، خاصة وأنه يملك بطاقة تخفيض. لكن طوال الرحلة لم يمر المراقب. ولما نزل في محطة الوصول، قصَد شباك التذاكر ليؤدي ثمن تذكرة السفر، فما كان من صاحب الشباك إلا أن اندهش من الطلب وهو يؤكد السؤال أكثر من مرة: هل تريد أخذ تذكرة الذهاب؟ لكن الشاب يؤكد له أنه يريد أخذ تذكرة السفر الذي وصل منه. فما كان من صاحب الشباك إلا أن قال له: عجيب والله ! هل أتيت من كوكب آخر؟ اذهب يابنيّ وضع الثمن في جيبك.
نعم، شاب في ريعان شبابه، طالب في الجامعة، ليس له أي دخل مادي شخصي خاص، يتوجه إلى شباك التذاكر ليؤدي ثمن تذكرة سفر أصبح من خبر كان، يتوجه دون رقيب بشري إلا رقابة الله سبحانه وتعالى.
قد تبدو القصة خيالية، أو على الأقل مثالية، أو أنها تَصَنُّع ورياء من الشاب، ولكنها واقعية حدثت وكأنها رأي العين للجميع، والشاب يحكيها ليس ازدهاء بنفسه ولكن استغرابا من غياب قيم الوفاء كلها إلى الحد الذي اعتبره صاحب الشباك آتيا من كوكب آخر.
والقصة في كل الأحوال وعلى بساطتها تحمل ما تحمل من دلالات، خاصة من جانبين اثنين:
< أولهما أنه في هذا الزمان التعِس الذي تسيطر فيه قيم المادة والأنانية والغش والسرقة بكل مستوياتها وألوانها وأطيافها، ويهيمن فيه الاستغلال والاحتكار بكل ظلاله، نجد شابا في مقتبل العمر يؤمن بمبدأ سام يمكن أن نضع له عنوان الوفاء؛ الوفاء لما يمليه الواجب الديني والحضاري والوطني: لا سرقة، لا غش، لا احتيال، لا… ولا… لقد كان بإمكان الشاب أن يترك المبلغ في جيبه من أول مرة، لأنه “رِزْق ساقه الله إليه”!!، وهو رقم إضافي بالنسبة إليه، خاصة وأنه لم يراقبه أحد من المخلوقات، ثم يكفيه أنه كان صادقا في نيته بأن يؤدي الثمن في القطار، لكنه مع ذلك لم يفعل، إنه الوفاء، إنه الإخلاص، إنه البحث عن الحلال، أو ما شئت من القيم التي ما زال يؤمن بها عدد من الأفراد في مجتمعنا، بما في ذلك الشباب، وإن كانت عند آخرين قد أصبحت من خبر الماضي أو من خبر الناس الذين يعيشون في الكوكب الآخر.
< وهذا هو الأمر الثاني، أقصد أن قيم الوفاء وأداء الأمانة –وخاصة في صورها الدقيقة- قد اختفت أو كادت من مجتمعنا حتى بدا ظهورها النادر تصرفا غريبا، لا لشيء إلا لأن قيم الفساد والغش والسرقة أصبحت تعشش في أذهان العديدين وتخيم على مخيلة الكثيرين.
نعم غابت قيم خلقية سامية عن مجتمعنا؛ قيم الإخاء والتعاون والوفاء والأمن والتفقد ونحو ذلك، وحلت محلها قيمٌ غريبة عن ديننا ومجتمعنا وحضارتنا وتاريخنا وتقاليدنا؛ قيمُ العداوة والتنافر والعدوانية والمحسوبية والتنكر… بل الأغرب أن تُلصق هذه القيم بشكل عضوي بكل أفراد مجتمعنا ولو على سبيل التهكم والسخرية، حتى أصبح السلوك السوي المرتبط بالقيم الإنسانية السامية عُملة نادرة يعز العثور عليها، وذلك في كل القطاعات الاجتماعية والصناعية والحِرفية والإنتاجية والإدارية، بل وحتى التعليمية والتربوية؛ سواء داخل مؤسساتنا التعليمية أو حتى داخل أسرنا، وبالأخص حينما نُعَوِّد أبناءنا، ولو بشكل غير مباشر، على هذه القيم، فينشأ الطفل وهو متشبع بكل ما ينافي قيمنا الأصيلة العريقة التي تربى عليها آباؤنا وأجدادنا وتنَكَّرنا لها نحن في زماننا هذا، مع أنها لا تنافي الحضارة ولا التقدم، بل هي من جوهر الحضارة، فالحضارات لا تُبنى على خيانة الأمانة وفساد الأخلاق.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>