للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، حافلة بالدروس والعبر التي يمكن القول إنها باختلاف مستوياتها، تدل على أن التأييد الإلهي والمدد الرباني لا يمكن أن يكونا إلا بعد تدبير إنساني، يأخذ بجميع الأسباب المادية المسخرة أصلا للإنسان، وذلك وفق السنن الكونية المعروفة التي هدى الله تعالى إليها الإنسان، وبدون ذلك لا يمكن أن يحدث أي شيء إلا بمعجزة، والمعجزات لا تكون إلا للأنبياء.
وبالإضافة إلى درْس ضرورة الأخذ بالأسباب المادية التي تدل عليها أحداث السيرة منذ أن بدأ الإعداد لها، هناك دروس أخرى تتعلق بالنماذج الإنسانية التي قدمتها، فكل من شارك في الهجرة أو أعدَّ لها قبل حدوثها، وأسهم في إنجاحها خلال حدوثها ولو من بعيد، هو نموذج للسلوك البشري السامي الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان السوي، والذي ليس هو إلا سلوك المسلم الحامل لرسالة النور والعدل والإخاء والمساواة، لأن الدفاع عن الحق ونصرة المظلومين لا يمكن أن يستنكف عنه أي إنسان سَوِي سليم في عقله وتفكيره. ومن ثم فقد كانت شخصية الرسول قدوةً مثلى في هذا الحدث كما في غيره، كما كان صاحبه في مسيرة الهجرة أبو بكر قدوةً، وكان علي قدوة، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قدوة… كل من كان له سهم في أحداث الهجرة كان قدوة في السلوك والتصرف، وقبل ذلك وبعده في الانضباط والتقيد بالتوجيهات والتعليمات والأخذ بالاحتياطات والتدابير التي هُدوا إليها.
لكن في الوجه الآخر كان هناك نموذج آخر لا يقل دوره عن الأدوار التي قام بها الآخرون السابقون الأولون بفضل من الله ورضوان، إنه نموذج عبد الله بن أريقط الرجل المشرك الذي أوفى بعهده وقام بدوره أحسن قيام مقابل أجر زهيد، مقارنة مع ما قدَّمه زعماء قريش من مغريات مادية كبيرة لمن يأتي بمحمد رسول الله حيّا أو ميتا؛ فلم يُثْنه شِركه ولا الأجر القليل ولا قِلة المناصرين للدين الجديد وقوة شوكة المتألبين ضده، لم يُثْنه ذلك عن الوفاء بالعهد والقيام بمهمته أحسن قيام، لم يخُن ولم ينخدع ولم يُفش سرا، بل بقي على عهده إلى أن مرَّ حدث الهجرة بسلام.
نموذج عبد الله بن أريقط من النماذج الإنسانية التي كانت تعرفها مكة ويعرفها المجتمع العربي بصورة عامة، النموذج الصادق الوفي، النموذج الواعي المتحمل للمسؤولية، النموذج الإنساني المتحضر، وإن بدا (من البداوة) في معيشته، النموذج الذي لا يضحي بالقيم من أجل المال، ولا يغيِّر مبدأه برشوة، ولا يبيع إنسانيته بلُعاعة من الدنيا، إنه نموذج من النماذج الإنسانية التي عرفها المجتمع العربي آنذاك؛ طهارة في السريرة، وسلامة في الطوية، وصفاء في التفكير، ولذلك اختارهم الله تعالى لرسالته، حتى إذا استجابت تلك النماذج واقتنعت بسمو الرسالة السماوية، تبعتها النماذج الأخرى التي لا ترقى قيمها ومبادئها إلى درجة قيم النماذج الإنسانية الأولى، إنها فطرة الله، فلا يمكن أن يكون جميع الناس قادة، فالناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة واحدة .
عبد الله بن أريقط نموذج من النماذج الإنسانية التي يمكن أن توجد في كل مكان وزمان، هي نماذج بقيت على فطرتها كما بقيت ملتزمة بوفائها للمبادئ العليا والمُثُل الإنسانية، وهي المُثُل التي جاءت بها رسالة الإسلام مُبشرة وإليها داعية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وهي نماذج كثيرا ما نصادفها أو نسمع عنها في حياتنا، فمتى يهتم المسلمون علماء ودعاة وقادة بهذه النماذج ليصنعوا منهم قادة عمليين بما لهم من إمكانات وقدرات، وليصنعوا التاريخ من جديد كما صنعه الأسلاف.
عبد الله بن أريقط هو النموذج الآخر للنماذج الإنسانية التي صنعتها الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليم، في تعبير سام وعملي على أن رسالة الإسلام رسالة إنسانية وعالمية.