شرح الأربعين الأدبية [38]


في  التحريك بالشعر (1)

 

روى النسائي  عن قيس، قال: قال عمر: قال رسول الله  لعبد الله بن رواحة:

«لو حركت بنــا الرِّكاب». فقال: قد تَركتُ قَولِي. قال له عمر: اسمع وأطع. قال:

اللهم لولا أنتَ ما اهتدينا ***  ولا تَصَدّقنا ولا صَلَّينا

فأنْزلنْ سَكِينـةً عَلَينا  *** وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا

فقال رسول الله  : « اللهم ارحمه».فقال عمر: وجبَتْ.(1)

 

حديث الباب من الأحاديث النبوية الخاصة بسماع الشعر، وتأثيره، وبيان وظيفته.

وسياق الحديث يُفيد أنه من الأحاديث الواردة في السفر؛ كما يُفهم من قوْلِ الرسول الله صلى الله عليه و سلم: «لو حَرَّكْتَ بنا الرِّكاب»، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المخاطب هو عبد الله بن رواحة المتوفى بغزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، علِمنا أن هذا الحديث محصور زمنيا بين غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة وعمرة القضاء في السنة السابعة.

وفي حديث الباب خمس مسائل:

المسألة الأولى: قوْل النبي صلى الله عليه و سلم: «لو حَرَّكْتَ بنا الرِّكاب»، وهي دعوة لطيفة، إذ اختار أن تكون ب”لو”: «لو حركتَ» بدل الأمر (حَرِّك)، وواضح أن موضوع الدعوة هو تحريك الرِّكاب.

والرِّكاب بكسر الراء المشددة «الإبل التي يُسار عليها، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها رُكُبٌ» (2)، وفيه دقيقة لغوية هي أن لفظ الرِّكاب عند اللغويين لا يطلق إلا إذا دلَّ على ركوب البعير خاصة، فأما في التعبير عن ركوب غيره فإما أن يستعمل لفظ آخر (كفارس، وحمّار…)، أو أن يُضاف إلى المركوب (كراكب فَرَسٍ، وراكب حِمارٍ…) (3).

والذي تطمئن إليه النفس أن مَسير النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في سفرهم –وقد يكون السياق سياق غزو- يقتضي تنوُّع المركوب بين إبل وخيْل؛ لأن لفْظَ الرَّكْب المرتبط اشتقاقيا بلفظ حديث الباب يدُل عليهما معا كما في قول الله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ… (4)، والسياق سياق الحرب، والخيل مِن عتادها، ولذلك رأينا ابن منظور يُعلِّق على ذلك التقييد للفظ بقوله: «وأرى أن الرّكب قد يكون للخيل والإبل»، ثم استدل بالآية السالفة الذكر، وبِبيتِ شِعرٍ (5).

وعلى كل حال فما يَهمنا هنا أن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه كانوا راكبين، وأن الكلام النبوي مُرتبِط بذلك، وأن رُكوبَهم قد يكون لحرْب، وقد يكون لغيرها (العمرة…).

ثم إن الهدَف مِن الطلب النبوي هو تحريك الرِّكاب، ومعلوم أن مقصودَه بذلك أن يُنشِد عبد الله بن رواحة شعرا يُؤثر في الرواحل ليُسَرِّع حركتها على عادة العرب في ذلك.

والطلب النبوي بذلك فيه إشارة إلى أنَّ الشِّعر له وظيفة تأثيرية، وإذا كان قد استعمَلَ لفظ «الرِّكاب» الدال على تأثير الشعر عليها عندما يكون الحداء به، فإن ذلك لا يمنع أن نَفهم منه أيضا أن لذلك الشعر تأثيرا على الرُّكَّاب أيضا، إذ يَزيدُهم الشعرُ حماسا وحيوية ونشاطا فيُشجِّعون الرِّكاب على السرعة، فيجتمع التأثيران: التأثير على الرِّكاب، والتأثير على الرُّكاب، ومعلوم أن السَّفر متعِب مرهِق، لا سيما إن كان في الصحاري والقفار، وعندما يعُم الصمتُ يَعُود كلُّ فَرد مِن الجماعة إلى ذاته فيزداد ارتخاؤها، وينعكس ذلك أيضا على الرِّكاب، فحينها يكون الشِّعر مُخْرِجا لتلك النفوس مِن قوقعتها نحو حماس عام سرعان ما يُذيب الذوات الفردية في روح جماعية تَستعيد الإحساس بوحدة الهدف والمصير…

وحديث الباب مِن هذه الناحية لا يَنفرد بإثارة الانتباه بطريقة عملية إلى أهمية الشعر ووظيفته؛ بل هناك أحاديث أخرى تشاركه الهدف نفسه، وحسبنا هنا أن نشير إليها؛ لأن المقام لا يسمح بالوقوف عندها واحدا واحدا، ومِن تلك الأحاديث حديث رجز النبي عند بناء المسجد (6)، وعند حفر الخندق (7)، وحديث رجز عبد الله بن رواحة به في عمرة القضاء (8)، وقد كانت لنا معه وقفات، وحديث رجز عامر بن الأكوع به في طريقهم نحو خيبر (9)…، ثم فوق هذا وذاك فقد كان للنبي عدد من الحداة مَهمَّتُهم تحريك الرّكاب، نَعرف منهم: أنجشة وكان يحدو بالنساء، والبراء بن مالك وكان يحدو بالرجال (10)، وأسْلَم ولم أقف على نص يذكر حداءه، إلا أنني رأيت الحافظ ابن حجر ترجم له بقوله: «أسلم حادي رسول الله صلى الله عليه و سلم» (11).
—————–

(1) – السنن الكبرى للنسائي، حديث رقم 8250، ك.المناقب، ب.عبدالله بن رواحة. صححه الألباني في (الصحيحة، حديث رقم3280). وفي وزن الشطر الأول خلل، وفي (شرح صحيح مسلم، 12/131، حديث رقم 1802/124) «والله لولا الله ما اهتدينا».

(2) – معجم مقاييس اللغة، 2/432، والنهاية في غريب الحديث والأثر، 2/256 مادة «ركب».

(3) – لسان العرب، 1/429، مادة «ركب».

(4) – سورة الأنفال، الآية 41.

(5) – لسان العرب، 1/430، مادة «ركب».

(6) –صحيح البخاري 2/471، حديث رقم 3906، ك. مناقب الأنصار، ب. هجرة النبي  وأصحابه إلى المدينة.

(7) – صحيح البخاري، 3/41، حديث رقم 4099، 4100، و3/43، حديث رقم 4104، 4106، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب.

(8) – صحيح سنن الترمذي، 3/136، حديث رقم 2847، ك.الأدب، ب.ما جاء في إنشاد الشعر.

(9) – صحيح البخاري، 3/65، حديث رقم 4196. كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.

(10) – مسند أحمد، 11/243، حديث رقم 13604.

(11) – الإصابة، 1/215.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>