مع كتاب الله تعالى – من شروط الانتفاع بالقرآن الكريم لابن قيم الجوزية رحمه الله


قال الله سبحانه وتعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد (ق: 27)
قال ابن القيم رحمه الله :
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يخاطبه به، من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله. قال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ، وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، ومحل قابل وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.
فقوله تعالى‏:‏ ‏ ‏إن في ذلك لذكرى ‏ إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر.
وقوله تعالى‏:‏ ‏ لمن كان له قلب ‏ فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏إن هو إلا ذكر وقرآن مبين‏.‏ لتنذر من كان حيًّا ‏ (يس‏: 68/‏69‏)، أي حي القلب‏.‏
وقوله‏:‏ ‏ أو القى السمع أي وجَّه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام‏.‏ وقوله تعالى ‏ و هو شهيد أي شاهد القلب حاضر غير غائب‏. قال ابن قتيبة‏:‏ «استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساهٍ»، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثُّر، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووُجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر‏ .
فإن قيل‏:‏ إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه، فما وجه دخول أداة ‏ «‏أو‏» ‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏ ‏أو القى السمع ‏ والموضع موضع واو الجمع،‏ لا موضع ‏ «‏أو‏» ‏ التي هي لأحد الشيئين‏.
قيل‏:‏ هذا سؤال جيد، والجواب عنه أن يقال‏:‏ خرج الكلام بـ «‏أو‏» ‏ باعتبار حال المخاطب المدعو، فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه، تامّ الفطرة، فإذا فكَّر بقلبه وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن وأنه الحق، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة‏.‏ وهذا وصف الذين قيل فيهم‏:‏ ‏ ‏و يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق (سبأ‏: 6).‏‏‏ وقال في حقهم‏:‏ ‏ الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء (النور: 35). ‏ فهذا نور الفطرة على نور الوحي‏.‏ وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي‏.‏
فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن فيجدها كأنها قد كتبت فيه، فهو يقرأها عن ظَهْر قَلْب‏.
ومن الناس من لا يكون تامَّ الاستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام وقلبه لتأمله والتفكر فيه وتعقل معاينه، فيعلم حينئذ أنه الحق‏.
فالأول حال من رأى بعينه ما دعي عليه وأخبر به‏.‏
والثاني حال من علم صدق المخبر وتيقنه وقال‏:‏‏‏ «يكفيني خبره‏» ‏ فهو في مقام الإيمان، والأول في مقام الإحسان‏.‏
هذا وقد وصل إلى علم اليقين، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين، وذاك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام‏.‏
فعين اليقين نوعان‏:‏ نوع في الدنيا ونوع في الآخرة، فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين‏.‏ وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار، وفى الدنيا بالبصائر،‏ ‏ فهو عين يقين في المرتبتين‏.‏
[وبعد]، فإن الله سبحانه جعل كلامه ذكرى لا ينتفع بها إلا من جمع هذه الأمور الثلاثة:
أحدها أن يكون له قلب حي واع فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى.
الثاني أن يصغي بسمعه فيميله كله نحو المخاطب فإن لم يفعل لم ينتفع بكلامه.
الثالث أن يحضر قلبه وذهنه عند الـمُكلِّم له وهو الشهيد أي الحاضر غير الغائب، فإن غاب قلبه وسافر في موضع آخر لم ينتفع بالخطاب، وهذا كما أن المبصر لا يدرك حقيقة المرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة وحدق بها نحو المرئي، ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك، فإن فقد القوة المبصرة أو لم يحدق نحو المرئي أو حدق نحوه ولكن قلبه كله في موضع آخر لم يدركه، فكثيرا ما يمر بك إنسان أو غيره وقلبك مشغول بغيره فلا تشعر بمروره فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره وكمال الإصغاء.
وعليه فإن الناس ثلاثة :
الأول: رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه .
الثاني: رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضراً فهذا أيضاً لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه .
والثالث: رجل حي القلب مستعد تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه فهو شاهد القلب ملق السمع فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة .
فالأول : بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني : بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه .
والثالث : بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره وقابله على توسط من البعد والقرب فهذا هو الذي يراه .
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور .
فإن قيل: فما موقع ((أو)) من هذا النظم على ما قررت ؟
قيل: فيها سر لطيف ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهرية النحاة.
فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقَّاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور وهؤلاء أكمل خلق الله تعالى وأعظمهم إيماناً وبصيرة حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهداً لهم لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه حتى قيل: إن مثل حال الصدِّيق مع النبي كمثل رجلين دخلا داراً فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته والآخر: وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته لكن علم أن فيها أموراً عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها ثم خرجا فسأله عما رأى فى الدار؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه لما عنده من شواهده وهذه أعلى درجات الصديقية ولا تستبعد أن يمُنَّ الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نوراً إلى نوره فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضاً.

من كتابيه : الفوائد و مدارج السالكين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>