لإِيلاف قُرَيْشٍ (1) ايلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ (4)
1 – في رحاب الدلالات اللغوية :
لإيلاف قريش : مصدر آلَفَ يُؤلف إيلافاً بمعنى جَعْلِهِمْ يعتادون السَّفَرَ في طلب الرزق والسعي لتحصيله، وقُريش: مجموعة القبائل المتكوّنة من وَلَدِ النضر بن كنانة، منقول من قَرْش وهو السمكة البحرية الكبيرة التي تعبث بالسُّفن، شُبِّهُوا بها لأنها تأْكُلُ ولا تُؤْكَلُ، أوْ سُمُّوا بذلك لِكَوْنِ قصي بن كِلاب جمعهم في الحرم بعد التفرُّق، والتقْرِيش : التجمُّعُ والالْتِئَامُ.
: رحلة الشتاء لليمن، ورحلة الصيف للشام .
أطعمهم من جوع: وسَّع عليهم في الرزق حتى لا يَجُوعُوا.
وآمنهم من خوف: جعلهم آمنين من الخوف سواء كانوا قاطنين أو مسافرين بسبب جوارهم للبيت الحرام، وسكناهم في حَرَمِهِ، لأن البيتَ بَيْتُ اللَّه، والله تعالى هو الذي جعله آمناً وجعل أهْلَهُ مُحْتَرمين مُهَابين بفضل البَيْتِ.
2 – مناسبة السورة لما قبلها :
بما أن سورة «الفيل» قبلها كانت امتنانا من الله تعالى على قريش بنعمة إهلاك عدوهم الذي كان عليهم أن يقابلوه بالشكر، جاءت هذه السورة بعدها لتذكر قريشا بنعم أخرى غفلت عنها وهي تقاوم دعوة رسول الله – وهي نِعمة التجميع بعد الفرقة في أقدس مكان على الأرض، ونعمة الأمن والاستقرار، ونعمة الغنى واليسار… علّهُم يعبدوا ربَّ النعم ويتبعوا رسوله .
3 – أغراض السورة :
تضمنت السورة حَثَّ قُرَيش على مقابلة النعمة بالشكر لاستدامتها، فَقُيُودُ النِّعَمِ شُكْرُهَا.
4 – في رحاب التفسير :
إذا كان الناسُ كُلُّهُمْ يعيشون في نِعَمٍ لا تُحْصى من الله تعالى، وعلى رأسها : نعمة الإيجاد والخلق، ونعمة الحياة، ونعمة الرزق، ونعمة العقل، ونعمة تسخير الكون للإنسان، ونعمة السمع والبصر والبيان، ونعمة الهداية والرعاية… وبعض ذلك فقط يستوجب الشكر والاعتراف بالمُنْعِم، فما بَالُكَ بهذه النعم كلها وغيرها مما لا يحصى كثرة وفضلا؟؟
إذا كان الناس كلهم يعيشون في نعم لا تحصى، فقريش بالأخص أفردها الله تعالى بنعم لا يشاركها فيها أحد من الناس وهي :
أ- تجميعُهُم حول البيت الحرام الذي هو أول بيت وُضع للناس : إِنَّ أَوْلَ بيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وهُدًى للْعَالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا (سورة آل عمران)
ب- حمايُتهُمْ من كُل عَدُوِّ أَرادَ بِهِمْ أو ببيت الله شراً، ولقد تكاثر الطامِعُونَ في امتلاك بيت الله الحرام، أو إزالة قدسيّته وهيبته في النفوس، فَصَدَّهم الله تعالى عن ذلك، وأهلك المعتدين الظالمين وحدَه بدون أن تبذلوا أيَّ جُهدٍ يُذكر في حماية البيت، وكان آخر معتدٍ ظالم أهلكه الله تعالى قبل بعثة النبي صاحِبَ الفيل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الفِيل
ح- كان وضعهم الطبيعي بوادٍ غير ذي زرع يقتضي هلاكهمْ جوعا بسبب شُحِّ مَوَارِدِ الرزق، ونُدرة الخصب والنماء، ولكن الله تعالى يسر لقريش أسباب الرزق والغنى واليسار، عن طريق الرحلتين والتجارتين لليمن شتاء وللشام صيفا، فعن طريق الرحلتين أصبحت قريش تمسك بزمام الاقتصاد التجاري، وتتحكم في مداخله ومخارجه أطعَمَهُمْ من جُوعٍ زيادة على ما يُدِرُّهُ عليهم بيت الله الحرام من رزق بسبب الوفود الكثيرة التي تأتي بأموالها وسلعها في موسم الحج، فيغنون قريشا في أيام قليلة، وهو فضل من الله تعالى حقق به دعوة خليل الله إبراهيم ، حيث تضرع إلى ربه وقال: رَبِّي إِنِّي أسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمٍ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فاجْعَلْ اَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثمَراتِ لَعَلَّهُمْ يشْكُرُون (سورة ابراهيم)
د- وآمَنَهُم منْ خَوْفٍ فوضعهم الطبيعي بدون دولة قوية تتوفر على جيش قوي منظم يحميهم يقتضي جَعْلَهم طُعمة لكل جبار عنيد، ولقمة سائغة لكل معتد أثيم، ولكن الله تعالى بفضل حُرمة بيته الحرام جعل قريشا تنعم بالأمن والهيبة والاحترام، فهم في نظر الناس أهل الله وجِوَارُ بيت الله، ومن يقدر من العرب أو غيرهم على التعدي على سُكان البيت وجيرانه، وهو البيت الذي تناقل الناس منذ بُني أخبار إهلاك الله من رام بالاعتداء عليه قبل بعثة النبي ، وهذه النعمة – نعمة الأمن- لا يشعر بها إلا من فقدها.
فعلى قريش التي مَيَّزَها الله تعالى بهذه النعم، وميَّزها بنعمة أخرى على العالمين، وهي بعثة النبي الخاتم منها… عليها أن تشكر الله تعالى بعبادة رب البيْتِ، وتنبُذ عنها عبادة جميع أنواع الأصنام والأوثان العاجزة حتى عن توفير الحماية لنفسها، ولا سبيل لتحقيق العبودية الحق لرب البيت إلا عن طريق اتباع الرسول المبعوث فيها رحمة للعالمين، وإلا حقَّ عليها ما حقَّ على القرية التي ضربها الله مثلا للناس جميعا وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَاتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً منْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بأنْعُمِ اللَّهِ فأَذَاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بمَا كَانُوا يَصْنَعُون (سورة النحل)
5 – مما يستفاد من السورة:
أ- أن الله تعالى جعل نعمتَي الرزق والأمن في قبضته وتحت إرادته وقدرته كجميع النعم التي لا تحصى، لتكونا دالّتين عليه من جهة، ومن جهة أخرى حتى يوفر للإنسان حرية الإرادة والاختيار، فمن آمن به آمن عن اقتناع ودليل، ومن كفر كان كفره حجة على الكافر، وحجة لله تعالى على مطلق رحمته وعدله، فلا يستطيع الإنسان أن يقول: إني كفرت بالاضطرار، لأن الدولة الفلانية أو الحاكم الفلاني هددني بقطع الرزق عني إذا لم أكفر، ومن هنا سمى الله تعالى نفسه الرازق والرزاق، كما سمى نفسه المومن أي الموفر للرزق والآمان لجميع المخلوقات المتوقفة في أداء دورها وقيام أمرها على الأمن والرزق.
ب- تقييد بقاء النعم يتم عن طريق الشكر، ولا شكر إلا بعبادة الله تعالى وَفْقَ ما شرع وأمرَ، فإذا كفر الإنسان برب النعم حاق به من النقم ما يستَحِقُّهُ كلُّْ ماردِ عنيد خارج عن طاعة سيده ومولاه قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الذينَ بَدَّلُوا نعمةَ اللَّهِ كُفراً وَأَحَلُوا قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِيسَ القرار .
(سورة إبراهيم) هذا في الآخرة، أما في الدنيا فقد تقدم مثل القرية الكافرة بأنعم ربها، وذكر الله تعالى قصة قارون الذي خسِف الله تعالى به وبداره الأرض، كما ذكر قصة من دخل جنته وهو ظالمٌ لنفسه وقال مَا أَظُنُّ أن تَبِيدَ هَذِه أبَداً ومَا أَظُنُّ الساعةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهُمَا مُنْقَلَباً ( الكهف) فَكان عقابَهُ : وأُحِيطَ بِثُمُرِهِ فأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أنفقَ فِيها وهِيَ خَاوِيَةٌ علَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكَ بِرَبِّي أَحَداً (سورة الكهف) والأمثلة التي وضحها الله تعالى كثيرة مما يدل على أن زوال النعمة المكفور بها سنة ربانية لا تتخلف، وإن طال الزمن، حتى لا يغتر بما يتمتع به الكافرون من النعم، فتلك نِعَمٌ في طيها نِقَمٌ دنيوية وأخروية لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذينَ كَفَرُوا في البلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبيسَ المِهَادُ (سورة آل عمران).
ج- إن الدول المستكبرة تعرف ما للتحكم في الرزق والأمن من سيادة ونفوذ ولهذا فهمُّهَا كله منصَبٌّ على التحكم في مصادر ثروات الشعوب المستضعفة، وفي حرمانها من امتلاك قوة العلم والتصنيع والتقنية، وقوة امتلاك السلاح الرادع، وقوة حسن الإدارة والدمقراطية، وقوة الوحدة والتوحيد… كل ذلك لإحكام طوق الاستعباد والاسترقاق على رقبة الشعوب المستضعفة، فتفرض عليها ما أرادت من أنواع التعليم، والاقتصاد والسياسة والسياحة حتى لا ترفع رأساً أبداً أمام أسيادها.
ولقد عاقب الله عز وجل شعوب الأمة الإسلامية بأن أذاقها لباس الجوع والخوف لما صنعت من التفريط في حق شريعة الله، ومع ما عليه هذه الشعوب من الخنوع للكافر المتكبر، فالله عز وجل ما زال يرحمها بفضل وجود من يقول رَبِّيَ الله أمام العملاء ضحية الانهزام النفسي والعقدي، وضحية الإفلاس الديني والسياسي. فقطرات دماء الشهداء على الأراضي الإسلامية هي تضرعات إلى الله تعالى بتدارُك هذه الأمة بالإنقاذ من مخالب من يتشبهون برب الأرباب، وملك الملوك، حيث يحاولون التحكم في مصادر الرزق والأمن بتخويف عباد الله. إنَّما ذَلِكُمُ الشيطانُ يُخوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِين (سورة آل عمران)
د- الغنى في الحقيقة هو غنى النفس، ولذلك كان الجوع ليس هو جوع المعدة فقط، وإنما هو جُوع النفس، حيث تجد الكثير من الناس يمتلكون الثروات المكدسة، ومع ذلك فهم من أبخل البخلاء في سبيل الله تعالى، بل وحتى في الإنفاق على أنفسهم. مما يدل على أن أنفسهم جائعة مهما حازت من الأموال، وذلك هو أقبح الجوع الذي يسلطه الله تعالى على الكافرين والمنافقين، قال رسول الله : «منْ كَانَتِ الآخرةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ فَقْرَهُ بيْنَ عَيْنَيْهِ، وفَرَّقَ عليه شِمْلَهُ، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا مَا قُدِّرَ لَهُ، فلا يُمْسِي إلا فَقِيراً ولا يُصْبِحُ إلا فقيراً، ومَا أَقْبَلَ عبْدٌ عَلَى الله تعالى بِقَلْبه إلاَّ جَعَلَ اللهُ قلوبَ المومنينَ تنقَادُ إليه بالوُدِّ وكان اللَّهُ بِكلِّ خَيْرِ إِلَيْهِ أسْرَعَ» (رواه الترمذي من حديث أنس)
هـ- كما أن الأمن ليس هو الأمن من العدو فقط، ولكن الأمن الحقيقي هو أمن النفس واطمئنانها من كل ما يعكر عليها صفوها من المخاوف، سواء مخاوف الفقر، أو المرض، أو العدو أو مخاوف الشعوب وثوراتها، أو مخاوف الحكام وظلمهم، أو مخاوف الموت… إلى غير ذلك من الأخطار المتربصة بالإنسان، ولا أمن من هذه المخاوف إلا بالاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه والتضرع إليه، والرجاء فيه، وذكره في كل حركة وفكرة، وفي كل الأحوال ألاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُ القُلُوبُ (سورة الرعد)، وكَيْفَ أخَاف مَا أشْرَكُتُمْ ولا تَخَافُونَ أنكُمُ أشْرَكْتُمْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بالاَمَنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (سورة الأنعام) فلا أمن إلا في ظل عبادة الله تعالى المومن المهيمن العزيز الجبار.
ذ. المفضل الفلواتي رحمه الله تعالى