افتتاحية – تحـويـل القـِبلــة و الشهـادة عـلى النـاس


في السنة الثانية للهجرة، وفي ليلة النصف من شعبان كانت حادثة تحويل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الـمُشرّفة، بعد أن صلى الرسول ستة عشر شهرا متجهاً نحو بيت المقدس، جاعلا الكعبة المشرفة بينه وبين بيت المقدس.
في صحيح مسلم، عن ثابت عن أنس، “أن رسول الله كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القِبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القِبلة.
ولقد أثار هذا التحول ضجة كلامية بين سفهاء الناس في ذلك الزمان من المشركين واليهود، فكان ردُّ الله عز وجل واضحا بأنَّ له المشرق والمغرب، وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكان أن هدى تعالى نبيَّه ومعه الأُمة إلى أن تُولي وجهها في صلاتها شطر المسجد الحرام، أولِ بيت وضع للناس: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (البقرة: 141).
وإذا كان من أُولَـى دلالات هذا الحدث الواضحة، العلاقةُ الوثيقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، باعتبار أن المسجدَ الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنَّ من الدلالات الكبرى لهذا الحدث العظيم أيضا، ما ورد في السياق القرآني أثناء الحديث عن تحويل القِبلة، حينما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (البقرة: 142)، إنها دلالة وسطية الأمة والشهادة على الناس.
فلقد اقتضت مشيئة الله تعالى من خلال تحويل القبلة الربط بين النبوات وتوثيق الصلة بين المقدسات، وجعْل الرسالة الخاتمة هي الشاهدة على جميع الرسالات، فكان أن اختبر تعالى إيمان هذه الأمة التي أخرجها خير أمة للناس، لتقود هؤلاء الناس، ولتقوم بدورها الريادي في البناء الحضاري، اختبرها -وهي فتِيَّة لم يمض على تأسيس دولتها سنتان، بالإضافة إلى أنها محاطة بقبائل من يهود ومن المشركين فضلا عن المنافقين في الداخل- اختبرها من خلال تحويل اتجاه القبلة. ذلك أن الأمة التي ستشهد على الناس آناً واستقبالا، وفي الحياة الأخرى لا بد أن تكون أولاً مطيعةً لربها ولنبيِّها، مخلصةً في ذلك كل الإخلاص، مستجيبةً إذا دعاها لما يحييها، حتى ولو كان ذلك في أحلك الظروف: وما جعلنا القِبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه (البقرة: 142). قال ابن كثير: “إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي : مُرتدّاً عن دينه”.
ومعنى هذا أن الابتلاءات والاختبارات قد تتوالى على الأمة وهي في أوج عزتها ماديا، كما يمكن أن تحدث وهي في أدنى ضعفها، لأن الإيمان هو الذي يجعلها قوية، كما أن ضعفه هو الذي يجعلها ضعيفة… والأمة الشاهدة الحاملة للرسالة الخاتمة المتسمة بالخيرية التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، الشاهدة على الأمم الأخرى، لا بد أن تكون رائدة في إيمانها ثابتة عليه، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا بالتمحيص والاختبار، فكان أمر تحويل القبلة.
والمتتبع لأحاديث تحويل القبلة يجد أن خبر هذا التحويل وَرَدَ على أكثر من جَمْعٍ من الصحابة وهم في الصلاة، فاستداروا نحو القبلة الجديدة وهم في الصلاة دون اعتراض أو تلكؤ، كما هو واضح في الحديث السابق، حالُهم في ذلك حال ما حدث حينما نزلت آية تحريم الخمر، فبعد أن قال تعالى: فهل أنتم منتهون . (المائدة:93) قال المسلمون: انتهينا. وأمر النبي مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حُرمت؛ فكُسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكاك المدينة (تفسير القرطبي)… إنها الاستجابة المطلقة لأمر الله.
ثم إن مما يقتضيه الإيمان الثابت التوادد والتراحم والتعاون فيما بين أبناء الأمة، مما يقتضي الوحدة بين أفراد الأمة ليكونوا متجانسين، لهم شخصيتهم الفريدة والقوية والعابدة المؤمنة التقية، تلك الشخصية التي تجعلهم دائماً في صدر المجتمعات.
وبالإضافة إلى هذا فإن تحويل القِبلة من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام هو عودة بالدعوة إلى أصلها، وهو عالميتها القائمة على الدينِ الحنيفِ دين إبراهيم ، لتكون أمةُ الإسلام أمةً وسطاً عبادةً وفهماً وسلوكاً. ولعل توسط بيت الله الحرام لساكنة الأرض جغرافيا يناسب بحق وسطية الإسلام وشهادة أهله على الناس كافة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>