اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني (17)


البنية اصطلاحا : تابع مناقشة الشطر الثاني من العنوان

افترضنا في الحلقة الماضية أن كل كلمة ذات شكل خاص مما يمكن أن يُطلق عليه “بنية” يتضمن نوعين من الدلالة : دلالة عامة، ودلالة خاصة، وقد أوردنا بهذا الخصوص مقتطفات تحت عناوين أبوابها من كتاب سيبويه، ووقفنا عند أمثلة منها محاولين ربط دلالتها الخاصة، بدلالة العنوان العام لكل باب، وافترضنا أن هذه الصفة أي صفة ثنائية الدلالة يمكن تعميمها على كل الأشكال الخاصة للكلمات، ولذا نتابع القول في هذا السياق لأجل البرهنة على صحة هذا الافتراض “شموليته”، فنقول وبالله التوفيق : إن الفعل الماضي مثلا بأشكاله الثلاثة الأصلية التي هي : فَعَل بفتح العين، وفَعِل بكسرها، ثم فعُل بضم العين، تمثل مجالات متنوعة من الدلالة، ذلك أن كل شكل منها يختص من حيث استعماله أصلا بمجال معين، وبذلك يمثل دلالته العامة في مجاله.
ثم تأتي الأمثلة المنضوية تحت كل شكل لتتضمن الدلالات الخاصة، فالأفعال الآتية : ضرب، ونظر، ونصر، وفتح أفعال ماضية على وزن فَعَل، وهذه هي دلالته العامة وهي دلالتها على الزمن الماضي مع اتحادها في شكل “فَعَلَ” بفتح الفاء والعين، لكن دلالة كل فعل بمادته غير دلالة الفعل الآخر، فدلالة ضَرَبَ، غير دلالة نَظَرَ، وكذلك الأمر بالنسبة للشكلين الباقيين وهما فَعِل بكسر العين ، وفَعُل بضمها ذلك أنه لا يمكن الجمع بين دلالات فرِح، وسَمِع، وعَلِمَ، ولا بين دلالات كرُم، وحسُن، وقَبُحَ.
والذي يعنينا فيما نحن بصدده هو تفسير الشطر الثاني من العنوان “مباني ومعاني” ذلك أن كل شكل من أشكال الأفعال التي ذكرناها في هذا السياق يرمز إلى مستويين من الدلالة : عامة وخاصة، وهذا ما يتطابق مع ما لاحظناه في الأبواب الأربعة التي أوردناها لسيبويه وهي: “باب ما جاء من الأدواء”، وباب فعلان”، و”باب ما يُبنى على أفْعَلَ” و”باب أيضا في الخصال”. والفرق الذي يمكن أن نلاحظه بين الدلالة الثنائية لهذه الأبواب وما ألحقناه أو نلحقه بها من الأمثلة هو أن دلالة العموم في هذه الأبواب تتعلق بمفاهيم مجزأة في مجال معين من مجالات التعبير، بحيث يمكن فهم عموميتها من التعبير عنها بصيغة الجمع كالخصال، والألوان والأدواء، في حين أن دلالة هذه الملحقات على العموم تفهم من سعة دلالة الكلمة المفردة، ولذا تقتضي شيئا من التأمل لفهم دلالتها على العموم كمفهوم الزمن الماضي بالنسبة للأفعال التي مثلنا بها.
ولأجل توضيح هذه المسألة أكثر نمثل بالأصل الكلي المفترض للفعل في علم التصريف هو مادة فَعَل التي مثلنا بها لأنواع الفعل الثلاثة أعلاه : فَعَل بفتح العين، وفَعِل بكسرها، ثم فعُل بضم العين، فقد لاحظنا أن كل شكل يمثل قالبا لأنواع معينة من الأفعال الثلاثية، وبذلك اعتبرنا دلالة كل شكل عامة، ودلالة المثال بمادته خاصة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يلاحظ أن فَعَل التي اعتبرناها أصلا عاما للأشكال الثلاثة المتفرعة عنها “فعََُِل” لها دلالتها الخاصة أيضا باعتبار مادتها، أي الفاء والعين واللام.
وإذا انطلقنا في هذا السياق من أشكال بعض الكلمات ذات خصوصية دلالية من «فَعَل» فإننا سنلاحظ أنها تحتمل ثلاثة مستويات من الدلالة وهي : الدلالة الأعم ثم العامة، ثم الخاصة، ويتضح ذلك من تحليلنا لهذه المادة التي بين أيدينا “فَعَل” يقول ابن فارس : “الفاء والعين واللام أصل صحيح يدل على إحداث شيء من عمل وغيره، من ذلك : فعَلْتُ كذا أفْعَلُه فَعْلا، وكانت من فلان فَعلة حسنة أو قبيحة”(معجم مقاييس اللغة 4/ مادة فَعَلَ)، ويقول ابن منظور : ” الفعل كناية عن كل عمل متعد أو غير متعد : فعَل يفعل فَعْلا وفِعلا…”(ل ع 11 مادة فعل)
يلاحظ من خلال دلالة مادة “فَعَل” فيما ورد عند كل من ابن فارس وابن منظور استعمال الكلمات ذات الدلالة المطلقة لتفسير دلالة هذه الكلمة، فهي عند ابن فارس “إحداث شيء من عمل وغيره” حيث عبر بالمصدر “إحداث، وبشيء وهي أنكر النكرات والمُحْدَث، عملٌ وغيْرُهُ، والعمل ينطبق على المفعولات المحسوسة، أما غيره فيحتمل المعنويات. أما ابن منظور فقد استعمل لهذا الغرض ثلاث كلمات مما يفيد أن دلالة الكلمة المفسرة”فَعَل” واسع جدا، وهذه الكلمات هي : “كناية” و”كل” و«متعد أو غير متعد» بالتنكير.
وعليه يمكن القول بأن دلالة هذه الكلمة بمادتها “ف ـ ع ـ ل” ووزنها “فَعَل” تتضمن ثلاثة مستويات من الدلالة. هي الدلالة الأعم باعتبار أصالتها لأشكال الفعل الثلاثي الثلاثة “فعل” مثلثة حركة العين، ثم دلالة عامة باعتبارها مطابقة في دلالتها لأحد الأمثلة المتفرعة عنها، وهو فَعَل، بفتح العين، ثم دلالتها الخاصة باعتبارها كلمة ذات خصوصية دلالية.
من بين الكلمات التي تحظى بهذا الامتياز، وفي هذا المعنى الأخير أوردها الزركشي ضمن مثيلاتها في الدلالة تحت عنوان : “أحكام لألفاظ يكثر دورانها في القرآن” من ذلك لفظ “فَعَل”
كثيرا ما يجيء كناية عن أفعال متعددة، وفائدته الاختصار كقوله تعالى : لبئس ما كانوا يفعلون (المائدة : 81) وقوله : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (النساء :65)، وقوله : فإن لم تفعلوا (البقرة : 24)…
وحيث أطلقت في كلام الله، فهي محمولة على الوعيد الشديد كقوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (الفيل :1)، وقوله : وتبين لكم كيف فعلنا بهم (إبراهيم : 45) (البرهان ح 4/141).
هكذا يتضح أن أشكال الكلمات بموادها تجد دلالاتها المتدرجة، ومن شأن الدلالة العامة للكلمة أن تحدد مجالها الذي تستعمل فيه ومفهومها العام كما سبق ذكره بالنسبة للكلمات المستعملة في الأبواب الأربعة التي استشهدنا بها من كتاب سيبويه، وما ألحقناه بها من الأمثلة، ولذا ينبغي تتبع هذه المسألة في كل أبنية الكلمات. فنحن نلاحظ بالنسبة لكلمة “فعل” قول الزركشي في النص أعلاه “وكثيرا ما يجيء كناية عن أفعال متعددة” وقوله “وحيث أطلقت في كلام الله فهي محمولة على الوعيد”، ومن هنا أيضا أي انطلاقا من العبارتين الأخيرتين يمكن التنبه إلى ما قد يتميز به المعجم القرآني من خصوصيات والله أعلم بالصواب والأصوب.
يتبــــــع
د.الحسين كنوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>