إشـــــــــــراقـــــــــة – إخفاءالحال عن أعين الرجال


عن ابن مسعود قال : قال رسول الله : «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (رواه أبو داود)، والترمذي وقال : حديث حسن، «يوشك» بكسر الشين: أي يسرع. وفي الأصل قال الترمذي: حسن صحيح غريب.
و«الفاقة» هي ضيق الحال وشدة الحرمان، وهذا الحال لا يزيد المؤمن الصادق إلا رجاء في فضل الله، واعتصاما بسيده ومولاه، فينزل مسألته بالذي برحمته ولطفه يتولاه، وحينها يوشك الله له برزق عاجل أو آجل، وعند أبي داود : «أوشك الله له بالغنى إما بموت عاجل أو غنى عاجل» قال القاوي : «إما بموت عاجل» قيل بموت قريب له غني فيرثه.
أما إذا أظهر للمخلوقين فقره وحاجته، وفضح أمام الناس فاقته وخصاصته بقي في ذل الحال ولم «تسد فاقته» وحتى لو أدرك سدادا من عيش في مقبل الزمان بقي عليه عار التذلل للناس، وقد مدح النبي المسكين المتعفف، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال : «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» (متفق عليه).
وفي رواية : «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحي، أو لا يسأل الناس إلحافا»(1) قال القرطبي : المسكين مفعيل من السكون، وهو من عدم المال فسكنت حركاته ووجوه مكاسبه، قال تعالى : أو مسكينا ذا متربة أي لا صقا بالتراب.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى : فالحديثان مختلفان في المعنى، فالأول : نفى فيه الإلحاف ودل على السؤال، والثاني : نفى فيه السؤال أصلا.. وإنما اختلف الحديثان لاختلاف أحوال السائلين لأن الناس يختلفون في هذا المعنى، فمنهم من يصبر عن السؤال عند الحاجة ويتعفف، ويدافع حاله، وينتظر الفرج من الله تعالى، ومنهم من لا يصبر ويسأل بحسب حاجته وكفايته، ومنهم من يسأل وهو يجد للاستكثار، وهذا هو الملحف الذي لا ينبغي له المسألة.
وإخفاء الحال وإبقاء الأمر في ديوان السر أعظم أجرا.
وعن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله في غزوة، ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدمي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق، قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، قال : كأنه كره أن يكون شيئا من عمله أفشاه. متفق عليه.
قوله : «نقبت» تضررت من المشي جراء الحفاء، ويقال: نَقٍبَ البعير إذا ارقَّ خفه.
«وكره أن يكون شيئا من عمله أفشاه» قال النووي : فيه استحباب إخفاء الأعمال الصالحة وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى ولا يظهر شيئا من ذلك إلا لمصلحة مثل بيان حكم ذلك الشيء والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الأخبار بذلك»(2).
قال الغزالي رحمه الله تعالى في أدب الفقير الظاهرة: أن يظهر التعفف والتجمل، ولا يظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره، قال سفيان أفضل الأعمال التجمل عند المحنة، وقال بعضهم: ستر الفقر من كنوز البر.
ذ. عبد الحميد صدوق
————–
1 – هذا لفظ البخاري.
2 – النووي شرح مسلم ج 12 ص 169.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>