مع سنة رسول الله – مِنْ بَلاغَةِ الإيجازِ والْجَمْعِ في الْبَيانِ النَّبَوِيّ


فنُّ إِفْرادُ الْحَديثِ الْواحِدِ بِالتَّصْنيفِ 2

لقد أوتي رسول الله جوامع الكلم، التي جُعِلت لنبوَّته ردءاً، ولرسالته علماً، لينتظم في القليل منها علمُ الكثير، فيسهل على السامعين حفظه.
وبذلك يتضمن الحديث الواحد من أصناف الفوائد، كقواعد الدين العظيمة والنكت البلاغية والاحتمالات الدلالية والمستنبطات الفقهية.
ومن المؤلفات التي وضعت لشرح الحديث الواحد ما يلي :
1 – كِتابُ «اخْتِيار الأَوْلى، شَرْحُ حَديثِ اخْتِصامِ الْمَلأ الأَعْلى، الْكَفّاراتُ والدَّرَجاتُ والدَّعَواتُ»(1). مدارُ الْكِتابِ عَلى شَرْحِ حَديثٍ خَرَّجَهُ الإِمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ حَديثِ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، قالَ: «اِحْتَبَسَ عَنّا رَسولُ اللهِ  ذاتَ غَداةٍ في صَلاةِ الصُّبْحِ حَتّى كِدْنا نَتَراءى قرْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ الرَّسولُ سَريعًا، فَثوّبَ بِالصَّلاةِ، وصَلّى وتَجَوَّزَ في صَلاتِهِ، فَلَمّا سَلَّمَ قالَ: إِنّي سَأُحَدِّثُكُمْ ما حَبَسَني عَنْكُمُ الْغَداةَ، إِنّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّيْتُ ما قُدِّرَ لي، فَنَعسْتُ في صَلاتي حَتّى اسْتثْقلْتُ، فَإِذا أَنا بِرَبّي عَزَّ وجَلَّ في أَحْسَنِ صورَةٍ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أَتَدْري فيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي رَبِّ. قالَ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّيْهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ، حَتّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنامِلِهِ في صَدْري، وتَجَلّى كُلُّ شَيْءٍ وعَرَفْتُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، فيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلى؟ قُلْتُ: في الْكفّاراتِ والدَّرَجاتِ. قالَ: وما الْكَفّاراتُ؟ قُلْتُ: نَقْلُ الأَقْدامِ إِلى الْجُمُعاتِ، والْجُلوسُ في الْمَساجِدِ بَعْدَ الصَّلَواتِ، وإِسْباغُ الْوُضوءِ عِنْدَ الْكَريهاتِ. قال: وما الدَّرَجاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعامُ الطَّعامِ، ولينُ الْكَلامِ، والصَّلاةُ والنّاسُ نِيامٌ. قالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْراتِ، وتَرْكَ الْمُنْكَراتِ، وحُبَّ الْمَساكينِ، وأَنْ تَغْفِرَ لي وتَرْحَمَني، وإِذا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتونٍ، وأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُني إِلى حُبِّكَ. وقالَ رَسولُ اللهِ : إِنَّها حَقٌّ، فَادْرُسوها وتَعَلَّموها» والْحَديثُ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وقالَ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ، وكذا قالَهُ الْبُخارِيّ.
والمَقْصودُ هُنا شَرْحُ الْحَديثِ، واسْتِنْباطُ ما يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ مِنَ الْمَعارِفِ والأَحْكامِ…
أ- فَفي الْحَديثِ دلاَلَةٌ عَلى أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ عادَتِهِ تَأْخيرُ صَلاةِ الصُّبْحِ إِلى قَريبِ طُلوعِ الشَّمْسِ، وإِنَّما كانَتْ عادَتُهُ التَّغْليسَ بِها… ولِهذا اعْتَذَرَ لَهُمْ عَنْهُ في الْحَديثِ …
ب- وفيه دلالَةٌ عَلى أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلاةَ إِلى آخِرِ الْوَقْتِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وخافَ خُروجَ الْوَقْتِ في الصَّلاةِ إِنْ طَوَّلَها، أَنْ يُخَفِّفَها حَتّى يُدْرِكَها كُلَّها في الْوَقْتِ …
ج- وفيه دَليلٌ عَلى أَنَّ مَنْ رَأى رُؤْيا تَسُرُّهُ فَإِنَّهُ يَقُصُّها عَلى أَصْحابِهِ وإِخْوانِهِ الْمُحِبّينَ لَهُ، و لا سِيما إِذا تَضَمَّنَتْ رُؤْياهُ بِشارَةً لَهُمْ، وتَعْليمًا لِما يَنْفَعُهُمْ…
د- وفيهِ دلالَةٌ عَلى أَنَّ الْمَلأَ الأَعْلى، وهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوِ الْمُقَرَّبونَ مِنْهُمْ، يَخْتَصِمونَ فيما بَيْنَهُمْ، ويَتَراجَعونَ الْقَوْلَ في الأَعْمالِ التي تُقَرِّبُ بَني آدَمَ إِلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وتُكَفِّرُ بِها عَنْهُمْ خَطاياهُمْ…(2)
2 – كِتابُ «نور الاقْتِباسِ في مِشْكاةِ وَصِيَّةِ النَبِيِّ لابْنِ عَبّاسٍ» للإِمامِ الْحافِظِ ابْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ. وهُوَ شَرْحٌ لِلْحَديثِ الذي خَرَّجَهُ الإِمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ حَديثِ حَنَشٍ الصَّنْعانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، قالَ: كُنْتُ رَديفَ النَّبِيِّ ، فَقالَ: «ياغُلامُ-أَوْ يا غُلَيِّمُ- أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلى، فَقالَ: اِحْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمامَكَ. تَعَرَّفْ إِلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ. وإِذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وإِذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ. قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِما هُوَ كائِنٌ. فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَميعًا أَرادوا أَنْ يَنْفَعوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللهُ، لَمْ يَقْدِروا عَلَيْهِ. وإِنْ أَرادوا أَنْ يَضُرّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِروا عَلَيْهِ. واعْلَمْ أَنَّ في الصَّبْرِ عَلى ما تَكْرَهُ خَيْرًا كَثيرًا، وأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
أَوْرَدَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَديثَ بِطُرُقِهِ الْمُخْتَلِفَةِ التي خَرَّجَها الإِمامُ أَحْمَدُ، وخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ في سِياقٍ مُخْتَصَر. وقَدْ قَسَّمَ الْحافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَديثَ إِلى جُمَلٍ ومَقاطِعَ، وشَرَحَ ما وَرَدَ فيها مِنْ فَوائِدَ، وما تَضَمَّنَهُ مِنَ وَصايا عَظيمَةٍ وقَواعِدَ كُلِّيَّةٍ مِنْ أَهَمِّ أُمورِ الدّينِ و أَجَلِّها.
وقَدِ اسْتَخْرَجَ مِنْ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْ جُمَلِ الْحَديثِ ما يَدْخُلُ فيهِ مِنْ فَوائِدَ فِقْهِيَّةٍ؛ فَحِفْظُ اللهِ يَعْني حِفْظَ حُدودِهِ، وحِفْظُ حُدودِهِ هِيَ الالْتِزامُ بِالْفَرائِضِ، وعَدَمُ انْتِهاكِ الْمُحَرَّماتِ، وعَدَمُ تَعَدّي الْحُدودِ، و يُؤَيِّدُ كُلَّ مَعْنًى طائِفَةٌ مِنَ الشَّواهِدِ الْقُرْآنِيَّةِ والْحَديثِيَّةِ…
وقَدْ عامَلَ كُلَّ لَفْظٍ مُعامَلَةَ الْكَلِمَةِ الْجامِعَةِ، التي تَحْتَمِلُ الْمَعانِيَ والْقَواعِدَ والأُصولَ الشَّرْعِيَّةَ، احْتِمالَ تَنَوُّعٍ وتَكامُلٍ، مِمّا يُؤَلِّفُ الصّورَةَ الْعامَّةَ التي يَنْبَغي اسْتِحْضارُها عِنْدَ فَهْمِ اللَّفْظِ مِنْ أَلْفاظِ الْحَديثِ، وهذا هُوَ الْمَنْهَجُ الْمَطْلوبُ في فَهْمِ كَلِمِ الْحَديثِ النَّبَوِيِّ؛ لأَنَّهُ لا يُقْتَصَرُ في فَهْمِهِ والْعَمَلِ بِهِ عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْناهُ اللُّغَوِيُّ، وإِنَّما يُنْتَقَلُ إِلى اسْتِخْراجِ كُلِّ ما يَحْتَمِلُهُ ويَتَضَمَّنُهُ مِمّا يَقْتَضيهِ الشَّرْعُ ولا يُناقِضُهُ، فَذلِكَ وَجْهٌ مِنْ أَوْجُهِ «الإيجازِ والْجَمْعِ في الْكَلِمِ»، وهُوَ البَلاغَةُ الْحَديثِيَّةُ والْحِكْمَةُ النَّبَوِيَّةُ.
ومِنْ مَزايا مَنْهَجِ دِراسَةِ الْحَديثِ مِنْ جِهَةِ «الإيجازِ وجَمْعِ الْكَلِمِ»، أَنَّهُ قَدْ يَقِفُ عِنْدَ عِبارَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ أَوْ بِضْعِ جُمَلٍ، فَيَعُدُّها مَدارَ الْحَديثِ كُلِّهِ والأَصْلَ فيهِ، وأَنَّ ما بَعْدَهُ وما قَبْلَهُ مِنْ كَلامٍ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ وراجِعٌ إِلَيْهِ. وهذا ما يَظْهَرُ في فَهْمِ ابْنِ رَجَبٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : «فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ جَميعًا أَرادوا أَنْ يَنْفَعوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللهُ، لَمْ يَقْدِروا عَلَيْهِ، وإِنْ أَرادوا أَنْ يَضُرّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِروا عَلَيْهِ». فَقَدْ عَدَّ هذِهِ الْوَصِيَّةَ مَدارَ هذا الْحَديثِ وأَصْلاً لَهُ، وأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ وَصايا فُروعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَنْ يُصيبَهُ إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ نَفْعٍ أَوْ ضرٍّ، وأَنَّ اجْتِهادَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ جَميعًا عَلى خِلافِ الْمَقْدورِ غَيْرُ مُفيدٍ شَيْئًا الْبَتَّةَ، عَلِمَ حينَئِذٍ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ وَحْدَهُ هُوَ النّافِعُ والضّارُّ والْمُعْطي والْمانِعُ، فَأَوْجَبَ ذلِكَ لِلْعَبْدِ تَوْحيدَ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ، وإِفْرادَهُ بِالاسْتِعانَةِ والسُّؤالِ والتَّقَرُّبِ، وإِفْرادَهُ بِالطّاعَةِ والْعِبادَةِ؛ لأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِبادَةِ جَلْبُ الْمَنافِعِ ودَرْءُ الْمَضارّ، ولِهذا ذَمَّ اللهُ سُبْحانَهُ مَنْ يَعْبُدُ ما لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، فَلا يُعْبَدُ إِلاّ مَنْ بِيَدِهِ النَّفْعُ والضُّرُّ، والعَطاءُ والمَنْعُ، ولا يُفْرَدُ بِالطّاعَةِ إِلاّ هُوَ.
قالَ ابْنُ رَجَبٍ: «وقَدِ اشْتَمَلَتْ هذِهِ الْوَصِيَّةُ الْعَظيمَةُ الْجامِعَةُ عَلى هذِهِ الأُمورِ الْمُهِمَّةِ كُلِّها».
3 – كِتابُ «بُغْيَةُ الرّائِدِ لِما تَضَمَّنَهُ حَديثُ أُمِّ زَرْعٍ مِنَ الْفَوائِدِ» لِلْقاضي عياض بْنِ موسى الْيَحْصبِيِّ السَّبْتِيّ الْمُتَوَفّى سَنَةَ (544هـ)(3).
شَرَحَ الْقاضي عياض في كِتابِهِ (الْبُغْيَة) حَديثَ أُمِّ زَرْعٍ، وفَسَّرَ مُشْكِلَ الْمَعاني والأَغْراضِ، وشَرَحَ الْغَريبَ، واسْتَخْرَجَ مِنْهُ ما تَضَمَّنَهُ مِنْ فَوائِدَ واسْتَنْبَطَ ما بِهِ مِنْ فِقْهٍ.
فَمِمّا تَضَمَّنَهُ مِنْ فِقْهٍ: حُسْنُ عِشْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ، وتَأْنيسُهُنَّ واسْتِحْبابُ مُحادَثَتِهِنَّ بِما لا إِثْمَ فيهِ(4). ثُمَّ اسْتَثْنى مِنْ ذلِكَ الأَمْرِ الْمَكْروهَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: «إِنَّهُ طَلَّقَها، وإِنّي لا أُطَلِّقُكِ»، تَتْميمًا لِتَطْييبِ نَفْسِها وإِكْمالاً لِطُمَأْنينَةِ قَلْبِها(5).
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ مَنْعُ الْفَخْرِ بِحُطامِ الدُّنْيا وكَراهَتُهُ؛ فَحينَ فَخرَتْ عائِشَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْها، في أَوَّلِ الْحَديثِ بِمالِ أَبيها، قالَ لَها: «اُسْكُتي يا عائِشَةُ»، ثُمَّ إِنَّهُ آنَسَها بِأَنْ قَرَّرَ عِنْدَها فَخْرًا آخَرَ، هُوَ أَوْلى بِها وأَسْعَدُ لَها بِقَوْلِهِ: «كُنْتُ لَكَ كَأَبي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ»(6).
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَخْبارُ الرَّجُلِ وزَوْجِهِ وأَهْلِهِ بِصورَةِ حالِهِ مَعَهُمْ، وحُسْنِ صُحْبَتِهِ إِيّاهُمْ، وإِحْسانِهِ إِلَيْهِمْ… واسْتِجْلابًا لِمَوَدَّتِهِمْ(7).
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ إِكْرامُ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسائِهِ بِحَضْرَةِ ضَرائِرِها، بِما يَراهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وتَخْصيصُها بِذلِكَ، كَما قالَتْ عائِشَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْها: «لِيَخُصَّني بِذلِكَ»، ولأَنَّها كانَتِ الْمَقْصودَةَ بِهذا الْحَديثِ، وهذا إِذا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الأُثْرَةَ والْمَيْلَ لَها بِذلِكَ، بَلْ لِسَبَبٍ اقْتَضاهُ ومَعْنًى أَوْجَبَهُ مِنْ تَأْنيسِ وَحْشَةٍ بَدَتْ مِنْها، أَوْ مُكافَأَةِ جَميلٍ صَدَرَ عَنْها(8) وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ جَوازُ تَحَدُّثِ الرَّجُلِ مَعَ إِحْدى أَزْواجِهِ، ومُجالَسَتِها في يَوْمِ الأُخْرى ومُحادَثَتِها؛ لِقَوِلِ عائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْها: «قالَ لي رَسولُ اللهِ ، وقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ نِساؤُهُ»، وفي رِوايَةٍ أُخْرى: «وعِنْدي بَعْضُ نِسائِهِ»، فَالظّاهِرُ أَنَّهُ في بيْتِها.
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ: جَوازُ الْحَديثِ عَنِ الأُمَمِ الْخالِيَةِ، والأَجْيالِ الْبائِدَةِ، والْقُرونِ الْماضِيَةِ، وضَرْبِ الأَمْثالِ بِهِمْ ؛ لأَنَّ في سِيَرِهِمْ اعْتِبارًا لِلْمُعْتَبِرِ، واسْتِبْصارًا لِلْمُسْتبْصِرِ… فَإِنَّ في هذا الْحَديثِ -لا سِيَّما إِذا حدّثَ بِهِ النِّساء – مَنْفِعَةً في الْحَضِّ عَلى الْوَفاءِ لِلْبُعولَةِ… كَحالِ أُمِّ زَرْعٍ، وما ظَهَرَ مِنْ إِعْجابِها بِأَبي زَرْعٍ وثَنائِها عَلَيْهِ وعَلى جَميعِ أَهْلِهِ… وبِسَبَبِ قِصَّتِها كانَ جَلْبُ الْحَديثِ، مَعَ ما فيهِ مِنَ التَّعْريفِ بِصَبْرِ الأُخَرِ اللاّتي ذَممْنَ أَزْواجَهُنَّ، والإِعْلامِ بِما تَحَمَّلْنَهُ مِنْ سوءِ عِشْرَتِهِمْ وشَراسَةِ أَخْلاقِهِمْ؛ لِيَقْتَدِيَ بِذَلِكَ مِنَ النِّساءِ مَنْ بَلَغَها خَبَرُهُنَّ في الصَّبْرِ عَلى ما يَكونُ مِنَ الأَزْواجِ(9)…
وفيهِ مِن َالْفِقْهِ التَّحَدُّثُ بِمُلَحِ الأَخْبارِ و طُرَفِ الْحِكاياتِ تَسْلِيَةً للِنَّفْسِ، وجِلاءً لِلْقَلْبِ. وقَدْ تَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لِلْحَديثِ بِـ «بابِ ما جاءَ في كَلامِ رَسولِ اللهِ في السَّمَرِ، (أَدْخلَ في الْبابِ هذا الْحَديثَ وحَديثَ خُرافَةَ(10)، وهُوَ حَديثٌ مُنْكَرٌ). فَالْقَلْبُ إِذا أُكْرِهَ عَمِيَ، ولكِنَّ الْمُباحَ مِنَ اللَّهْوِ جائِزٌ ما لَمْ يَكُنْ دائِمًا مُتَّصِلاً، وإِنَّما يَكونُ في النّادِرِ والأَحْيانِ، ساعَةً بَعْدَ ساعَةٍ، وأَمّا أَنْ يَكونَ عادَةً في الرَّجُلِ حَتّى يُعْرَفَ بِهِ ويُطْرِبَ النّاسَ ويُضْحِكَهُمْ، فَهذا مَذْمومٌ دالٌّ عَلى سُقوطِ الْمُروءَةِ ورَذالَةِ الْهِمَّةِ واطِّراحِ الْوَقارِ، وقادِحٌ في عَدالَةِ الشّاهِدِ(11).
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ بَسْطُ الْمُحَدِّثِ والْعالِمِ لِما أَجْمَلَ مِنْ عِلْمِهِ لِمَنْ حَوْلَهُ، وبَيانُهُ لَهُمْ، مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ، كَما فَعَلَ رَسولُ اللهِ في هذا الْحَديثِ، وقَدْ قالَ لِعائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: «كُنْتُ لَكِ كَأَبي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ»، قالَتْ: ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَديثَ(12).
وفيهِ مِنَ الْفِقْهِ سُؤالُ السّامِعِ الْعالِمَ شَرْحَ ما أَجْمَلَهُ لَهُ؛ فَقَدْ وَقَعَ في بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أَنَّها لَمّا قالَ لَها: «أَنا لَكِ كَأبي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ»، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ: وما حَديثُ أَبي زَرْعٍ ؟ فَذَكَرَ رَسولُ اللهِ الْحَديثَ(13).
وبَعْدَ أَنِ اسْتَنْبَطَ الْقاضي عياض ما في حَديثِ أُمِّ زَرْعٍ مِنَ الْفَوائِدِ الْفِقْهِيَّةِ، شَرَعَ في اسْتِخْراجِ غَريبِ كُلِّ قَوْلٍ مِنْ أَقْوالِ النِّساءِ، ومَعْناهُ، وعَرَبِيَّتِهِ، و بَيانِهِ و فِقْهِهِ، إِنْ كانَ فيهِ ما يُسْتَنْبَطُ مِنَ فِقْهٍ.
ثُمَّ خَتَمَ الْكِتابَ بِذِكْرِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَديثُ مِنْ ضُروبِ الْفَصاحَةِ، وفُنونِ الْبَلاغَةِ، وأَنْواعِ الْبَديعِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَخْرَجَ مِنْهُ نَحْوَ عِشْرينَ مَسْأَلَةً في الْفِقْهِ ومِثْلها مِنَ الْعَرَبِيَّةِ.

د. عبد الرحمن بودراع
—————
1 – اَلْكِتابُ لابْنِ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيِّ (ت.795) ، حَقَّقَهُ : حُسين الْجَمَل ، ط/1 ، 1407-1987 ،