مع سنة رسول الله – قيم التوادد وأثرها في تماسك الأمة


عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله [ : «مثلُ المومنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(متفق عليه).
أولا : عناصر الرسالة (الوصية):
1 – المخاطَب، أو المرسَل إليه، أو الموصَى : كل المومنين على وجه الأرض في كل زمان وفي كل مكان. بدليل الجملة الاسمية و»الـ» التي تفيد الدلالة على الجنس.
2 – المخاطب به، مضمون الرسالة، أو الوصية، ا لموجه للمومنين هي «الوحدة» بدليل جعل المشبه به جسدا، التي ينبغي أن يعمل على المحافظة عليها، وهو الأصل، أو السعي إلى تحقيقها أو ترميمها كلما أصيبت بخدوش أو اهتزاز، بوسائل ثلاثة هي :أ- التواد. ب- التراحم. ج- التعاطف.
وقد جاءت هذه الوسائل بصيغة «التفاعل» حتى ينال كل نصيبه من المسؤولية في بناء مجتمع الوحدة والجسدية بين المومنين تنظيماً كان، أو فرداً، جمعية، أو جماعة، قطرا، أو إقليما، فالمسؤولية تقع على الجميع كلٌّ حسب موقعه، وقدراته، على غرار ما تتعاون أعضاء الجسد الواحد في أداء مهامها لصالح الجسم ككل.
3 – الحد الأقصى الذي ينبغي أن تتحقق به الفكرة المرجوة الموصى بها «الجسدية» وهي المشبه به، وهذه الصورة يمكن الإحساس بها وتمثلها بالنسبة لأي فرد سليم الحواس في مجتمع المؤمنين، ومن ثمّ تقع المسؤولية على الجميع، لأن الكل بإمكانه أن يدرك، ويحس، ولذا يتوجّب عليه أن يتحرك ليفعل شيئا للعضو المريض، وما يدريك لعل المسألة تتجاوز الألم المنقول عبر الجهاز العصبي إلى سائر الجسم، لينتشر المرض نفسه في الجسم كله إذا لم يعالج ذلك العضو المريض بالكيف المطلوب، في الوقت المطلوب بالقدر المطلوب.
4 – علة اختيار مدى تحقق صورة المشبه: مقارنتها بحالة المشبه به «حالة الجسم المريض عضو من أعضائه»!
ثانيا : مفاتح النص ومكوناته :
1 – مثل : مِثْل : كلمة تسوية، يقال : هذا مِثْلُه، ومَثَلُه، كما يقال شِبْهُه، وشَبَهُه بمعنى.قال ابن بري : «الفرق بين المماثلة والمساواة، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس، والمتفقين، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص. وأمّا المُماثلة فلا تكون إلا في المتفقين، تقول : نحوه كنحوه وفقهه كفقهه، ولونه كلونه، وطعمه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله على الإطلاق فمعناه أنّه يسُدّ مسَدَّهُ، وإذا قيل : هو مثله في كَذا فهو مساوٍ له في جهة دون جهة» اللسان 610/11.2-
الكلمات التي تمثل المشبه في النص (التواد -التراحم -التعاطف) وجه الشبه أمور ثلاثة :
أ- ودّ الشيءَ : أحبَّهُ.. ابن الأنباري : الوَدُود في أسماء الله عز وجل، المحب لعباده، من قولك ودِدْت الرجل أودُّه.. قال ابن الأثير، الودود في أسماء الله تعالى فعُول بمعنى مفعول، من الودّ : المحبة، يقال : وددتُ الرجل إذا أحببته، فالله تعالى موْدُود، أي محبوب في قلوب أوليائه، قال : أو هو فعُول بمعنى فاعل، أي يحب عباده الصالحين، بمعنى يرضى عنهم.. وفي الحديث الحسن : «فإن وافق قول عملا فآخه»، وأوْدِدْه أي أحببْهُ وصادقه.. وفي الحديث : «عليكم بتعلم العربية فإنها تدل على المروءة، وتزيد في المودّة«، يريد مودة المشاكلة..اللسان : 454/3.
ب- عطْفَ : عطَفَ يعْطِفُ عطْفاً : انْصَرف، وعطفتَ عليه : اشْفَقْتَ عليه» اللسان : 249/9.
ج – رحم : «الرّحْمَةُ : الرّقة والتعطف، وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضاً، والرحمة : المغفرة، قال تعالى : {هدى ورحمة لقوم يومنون}، وقال : {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} اللسان : 230/12.3- الجسد : جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض.. اللسان 120/3.4-
المومنين: للمومنين صفات كثيرة تميزهم وتحدد علاقاتهم بالكون وخالقه، وما فيه، ومن فيه منها :
تميزهم بصفة الإيمان بالله عز وجل، ولهذا التميز مظاهر سلوك عملي يحدد مجموعات من علاقات الإنسان المومن بالله وبالكون، بل حتى بنفسه منها :
1) الإيمان بالغيب : قال تعالى : {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمومنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة 284)، {قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا..} (الحجرات : 2)
هذا التسليم لله عز وجل تنتج عنه سلوكات عملية للعبد المومن بينه وبين الله منها :
أ- التقوى : قال تعالى في سورة البقرة : {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين..}.
ب- يحررون ولاءهم لله وللمومنين قال تعالى : {لا يتخذ المومنون الكافرين أولياء من دون المومنين ، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (آل عمران 28) .
جـ- وقال تعالى : {إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون} (الحجرات 10).
د- وقال تعالى : {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم، وعد الله المومنين والمومنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} (التوبة 72).
تلك هي لبنات الجسدية المطلوبة بين المومنين، فاستعمل عليه الصلاة والسلام كلمة «مثل» ومنه «المماثلة» التي لا تكون إلا بين الشيئين المتفقين في الجنس، وبذلك رفع [ حالة علاقة المومنين فيما بينهم كما يوصي بها ويحث عليها إلى مستوى الجسد القوي السليم الحواس والأعضاء سواء بسواء، فكلّما أصيب عضو من أعضاء الجسم السليم بمرض مّا إلا ويكون ذلك مصدر قلق وإزعاج لجميع أعضاء الجسم، فالإنسان السليم الحواس إذا مرض عضو من أعضاء جسمه لا يشعر بارتياح، وكذلك ينبغي أن تكون عليه حالة المؤمنين، فكما أن كل عضو من أعضاء الجسم يقوم بوظيفة دون أدنى خلل، فكذلك أفراد المجتمع المؤمن، وكما أن مرض عضو واحد مما قلّ شأنه أو كبر في الجسم السليم المتماسك كفيل بأن يجعل الجسم كله في حالة قلق، كذلك ينبغي أن تكون العلاقة بين المؤمنين، وذلك ما يحدده مضمون وصية الرسول [ للمومنين في ذلك الحديث بكلمات (التواد -والتراحم -والتعاطف) فأصل التواد : ودّ بمعنى أحب وأصل التراحم : رحم : والرحمة: الرّقة، وأصل التعاطف : عطف بمعنى : أشفق، وعليه يكون مضمون هذه الوصية هو : الحب والرقة، والشفقة بين المؤمنين، ولا شك أن من تعوّد على هذه الصفات وتربى عليها، ستصبح له سلوكا غريزيا مع المؤمن وغيره من الكائنات. وبالخصوص أنها وردت في الحديث الشريف بصيغة المفاعلة التي تفيد المشاركة، فكل مؤمن مطلوب منه أن يحبّ كما يُحَبُّّ، وأنْ يشفق كما يشفق عليه، وأن يرق قلبه ويلين للآخرين. كما ترق قلوبهم له وتلين. ولذا جاءت أحاديث وآيات تحث على هذا التآزر والتماسك، بين المؤمنين منها :
أ- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله [ قال : «المسلم أخو المسلم لا يظْلِمُه، ولا يسْلِمُه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كُرْبة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة»(متفق عليه).
ب- وعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله [ : «المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام : عرضه، وماله، ودمه. التقوى ههنا، بحَسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»(رواه الترمذي، وقال حديث حسن).ولا يمكن لهذه العلاقة التآزرية أن تبني مجتمعا على هذه الأسس للرقي به إلى هذا المستوى من التعاطف، والتراحم، والاشفاق بين بني البشر من المؤمنين، إلا بالتربية والتعهد، بالتربية منذ الصغر والتعهد في الكبر، وذلك ما تشير إليه بعض الآيات الكريمات من كتاب الله عز وجل مما أوردناه سابقاً على سبيل المثال لا الحصر. فالمؤمنون يؤمنون بالله (كما في البقرة 284) ويستحضرون عظمته سبحانه كما في قوله تعالى : {إنما المومنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} (الأنفال 2) وكيف يمكن أن يُذْكر الله دون أن تكون ثمة جهة تُذكّر به قصْداً، وهذا ما يحمل على الاعتقاد الجازم، بأنه لا بُدّ من مؤسسات تربي على مبادئ الجسدية ولا بد من مؤسسات تحمي وترعى ما تحقق من مبادئ الجسدية، ولا بد من مؤسسات تعمل على سدّ حاجيات الإخلال بالجسدية، فالأمة في حاجة إلى تقوية مؤسسات التوجيه فيما يخص تحرر الولاء لله وللمؤمنين، وفي حاجة إلى مؤسسات تسهر على قضاء حوائج الناس والتنبيه على ما قد يَجِد ويلِحّ من الحاجيات حتى لا يتزحزح مفهوم الأخوة التي رُبُّوا عليها (إخوة) ويصْلح ما قد يحدث بين الإخوة المؤمنين من شقاق {فأصلحوا} بالحسنى.
وبعد : فإنّ للجسدية آثاراً جلية على مستوى الأفراد والأمة.
ثالثا : الجسدية والواقع
مادام مفهوم الجسدية المطلوبة ينبني على ثلاث ركائز هي : 1 – التواد. 2 – التعاطف. 3 – التراحم. فإلى أي حد يمكن القول بأنّ هذه المبادئ لها تأثير في حياة المسلمين، وتوجيه سلوكاتهم على مستوى علاقات جميع الكيانات الفردية أو الجماعية، وهل تحقق ذلك في مرحَلة من مراحل تاريخ المسلمين، أم أن هذا ضرب من المثاليات كما قد يظن!.
1 – تاريخيا كان أول نموذج للجسدية بين المسلمين هو الذي قام به أبو بكر في صدر الدعوة الإسلامية لمّا أعتق «ستّ رقاب : بلال سابعهم، وهم : أمّ عُبَيْس، وزنّيرة، والنّهدية وبنتها، وجارية بني مؤمّل» والملاحظ أن جل من أعتقهم أبو بكر من النساء، وإن كان الكل من العبيد المستضعفين، لأنّه أحبّهُنّ في الله، ورق قلبه لحالِهِن، وعطف عليهن، فبذل المال في سبيل تحريرهن وتفريج كربهن إلى درجة أن أباه قال له يوماً «يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلوْ أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جُلْداً يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : يا أبتِ إني إنّما أريد ما أريد للّه تعالى، فيُتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال به أبوه : {فأمّا من اعطى واتّقى، وصدّق بالحسنى} (الليل : 5) إنه مثال المومن الذي ودّ من جانبه، وعطف ورحم إخوانه.
2 – الجسدية الجماعية : لا بد لتحقيق الجسدية بين المؤمنين من مؤسسات، تربوية وتعهدية وتوجيهية، فهذا رسول الله [ يبني مسجداً ومركز التجمع والتآلف، قبل أن يقوم بعمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. وهذا الإخاء يعني أن تذوب عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه(الرحيق المختوم 163).وفي هذا المعنى يقول مالك بن نبي : إن المجتمع الإسلامي الأول لم يتأسس على عاطفة مجردة، أو شعور ساذج، بل قام على عمل جوهري هو (المؤاخاة) بين الأنصار والمهاجرين، وكان ذلك ميثاقا لتلك الحركة الحديثة التي حاولت التأليف بين أعضاء المجتمع، تأليفا يحمل معنى المشاركة في الأفكار، والأموال (وجهة العالم الإسلامي : 156 ترجمه عبد الصبور شاهين). إن مشاكل الأمة مزمنة لا يمكن أن تحل حلا مرضيا إلا في إطار الجسدية، التي تعني بناء الفرد المؤمن بربه، القنوع الذي يقوم بواجبه، العطوف، الرحيم، الودود.

د. الحسين كنوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>