إلى أن نلتقـي – نظرات في إصلاح التعليم (9) لـمـاذا نجَـح التّـعـليـم فـي بـلادنـا بعد الاسـتـقـلال 3-


سبقت الإشارة في هذا العمود من عدد سابق إلى أنه من القواعد البلاغية عند الأسلاف المنظّرة لكل تواصل ناجح قولهم «إذا لم يكن المستمع أحْرص على الاستماع من القائل على القول، لم يبلغ القائل في منطقه، وكان النقصان الداخِل عليه بقدر الخلّة بالاستماع منه».
إن هذا النص من دُرر الشواهد المأثورة عن دوْر المتلقي – أيا كان- في العملية التواصلية، إذا أنه يتقاسم المسؤولية مناصفةً بل وربما أكثر من ذلك بكثير مع المتكلم المتحدث – أيا كان-. وهو أيضا تلخيص لما كان يتّسم به أسلافنا من استشْعار بالمسؤولية، سواء أثناء الحديث أو أثناء الاستماع. ولذلك ألفوا ما ألّفوه من كتب أو فصول تتخلل كتُباً حول آدب السامع والمستمع وآداب المعلّم والمتعلّم وما أشبه ذلك.
والمتعلم هو متلق في كل الأحوال، ولذلك إذا لم يكن أحْرص على الفهم والاستيعاب من المعلّم على الإفهام والإبلاغ، أصاب العملية التعليمية ما أصابها الآن من وَهَنٍ وضُعف، وخلل وإخلال بالمهمة التربوية والتعليمية جملةً وتفصيلا.
لقد كان التلميذ المتعلم بعد الاستقلال أنموذجاً في حسن التلقي والانضباط، ويمكن بيان بعض ذلك من خلال النقاط الثلاث التالية :
1 – تقدير المعلّم الأستاذ: لقد كان التلميذ في الأجيال الأولى بعد الاستقلال يقدر معلمه تقديراً خاصّا، لقد كان يعتبره الأب الثاني، وربما الأول لأنه قد يتعلم منه ما لا يتعلمه من أبيه، بل قد نجد الأب يحمل المسؤولية كاملة للمعلم في تربية ولده، ليس فقط في تعلم اللغة أو المعلومات ولكن أيضا في اكتساب التربية الحسنة وما يتبعها من سلوك وأخلاق، ومن ثمَّ كان التلميذ عموما في مرتبة «المريد» المستسلم لـ»شيخه» المسلّم له في كل ما يقوله ويفعله، لأنّه قدوة، ولقد كان فعلا قدوةً كما مرّ بنا في عدد سابق، لأنه كان رساليا في مهمته.
2 – التضحية في سبيل التلقي: إذا كانت شريحة كبرى من المعلمين في ذلك الوقت أنموذجاً للتضحية كما رأينا سابقا أيضا، فإن التلميذ المقتدي بهذا النموذج كان هو الآخر أنموذجا في هذا المجال. لقد كانت شرائح كبيرة من التلاميذ –وخاصة في القرى والبوادي- يقطعون الفيافي والأودية والجبال، صيفا وشتاءً، ولمسافات طويلة من أجل الوصول إلى المدرسة.
أذكر جيّداً خلال سبيعنيات القرن الماضي كيف كان التلاميذ يخرجون من مؤسساتهم على الساعة السادسة مساءً، بعد غروب الشمس بما يقرب من ساعة في فصل الشتاء، ويقطعون –راحلين طبعا- مسافات قد تصل إلى عشرة كيلومترات في طرقات جبلية تَرِبَة وَحِلَةٍ، ثم يستيقظون غداة ذلك اليوم ليقطعوا نفس المسافة باكراً حتى يصلوا إلى المؤسسة على الساعة الثامنة صباحا، بعد أن قضوا جزءاً من لَيْلَتِهم في التحصيل والمراجعة على ضوء الشموع أو مصابيح الغاز، كل ذلك كما قلت صيفا وشتاء، أليس ذلك تضحية؟
3 – الاعتماد على النفس: كل ما سبق ذكره، وغيره من صعاب الأمور كان يحدث، مع اعتماد مطلق على النفس، لم تكن هناك ساعات إضافية ولا دروس ليلية ولا مؤلفات مدرسية مساعدة. كل ما كان يملكه التلميذ – إن كان يملك ذلك أصلاً- كتاب في العربية، وآخر في الفرنسية، ودفتر واحد أو اثنان على الأكثر من أجل كتابة الدروس، وريشتان واحدة للعربية والأخرى للفرنسية، أما أقلام الرصاص والملونات ونحو ذلك فقد كان يعتبرُ ترفا. وما عدا غير ذلك فلم يكن هناك إلا الاعتماد على النفس.
شظف وأي شظف ولكنه شظف خرَّج لنا أجيالا من الأساتذة الكبار والعباقرة العظام والإداريين النبهاء ممن نراهم اليوم هنا أو هناك، داخل الوطن وخارجه.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>