خروق في سفينة المجتمع42 – زخرف القول


المدار في صلاح سفينة المجتمع -على مستوى القول – في صلاح هذا القول بحيث يكون صادقا معبرا عن الحقائق التي يشكل وعي الناس بها مقدمة سليمة وشرطا أساسا للفعل الصحيح، أو العمل الصالح، بحيث يكون القول بهذه المثابة، من جهة ترجمانا لما يحمله الفكر من مفاهيم وقيم وتصورات عن الوجود بشتى مناحيه وتجلياته، ويكون من جهة أخرى حافزا ومهمازا يحث على الانتقال إلى مستوى العمل الذي تكتمل به مصداقية الإنسان التي لن تتحقق إلا بالتلازم بين القول والعمل، شريطة أن يكون كلاهما داخل دائرة الحق والصواب. أما في حالة الفصام بين القول والعمل، فإن من يكون عرضة لهذا الوضع النكد يؤول لا محالة إلى حالة المقت الذي توعد به الله عز وجل كل من سقط في مغبته، وذلك في قوله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
هذا مستوى من مستويات حركة الإنسان في منظور الإسلام، يتبلور في الموازنة والتطابق والانسجام بين ما يصدر منه من أقوال، وبين ما يجترحه من تصرفات وأفعال، بما يستتبع من قيام حركة العمران البشري على أساس راسخ من الحق المبين.
أما المستوى الآخر من مستويات تلك الحركة، الذي أود التركيز عليه في هذه الكلمة، فهو مستوى القول باعتباره قولا فارغا مسطحا بعيدا عن الحقيقة أو حاجبا لها تحت ألوان من الزيف والتمويه، إنه «زخرف القول» كما يعبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبيء عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}.
إن «زخرف القول» يعتبر خرقا خطيرا من خروق سفينة المجتمع، في حالة التمكين لمن يتبادلون وحيه من شياطين الإنس والجن، ويعتبر ميدانا من ميادين المنازلة بين الحق والباطل، يحقق فيه أهل الحق انتصارهم فيه بقدر نجاحهم في كشف زيف أقاويلهم المزخرفة، وفضحهم أمام الناس باعتبارهم شياطين مدلسين محتالين، لا يملكون إلا الكلام المبهرج الخالي من الحق، يقول الشيخ أبو زهرة في «زهرة التفاسير» مفسرا الآية السابقة: (أي يلقي في نفوسهم تحسين الباطل بأقوال باطلة ولكنها مزخرفة بزخرف يكون غرورا للنفس الضالة فتتدلى به. وهكذا يجيء تضليل النفوس في الآحاد والجماعات بزخرف القول، فتسمى الحقائق بغير أسمائها، فيسمى الجحود طلبا للدليل، وتسمى الشجاعة في الحق تهورا، ويسمى الإفساد حرية، ويسمى الاستبداد شورى والشورى طغيانا، ولذلك كان بعض الحكماء يرى أن إصلاح الأخلاق يكون أولا بتصحيح الألفاظ، وأن هذه العداوة للأنبياء من شياطين الإنس والجن بإرادة الله تعالى، ولذا قال:{ولو شاء ربك ما فعلوه} أي إن هذه إرادة الله اختيارا، وليبلغ النبيون أعلى مراتب الإنسانية بجهادهم في الدعوة إلى الله.
إن تأملنا في الواقع المعاصر وما يكتنفه من اختلالات، وما ينتج عن هذه من أزمات، يفضي بنا إلى إدراك دلالات الإعجاز الباهرة في الضميمة الاصطلاحية «زخرف القول»، فهذه تعتبر من مفاتيح التحليل الأساسية ذات الفعالية العالية في فهم الواقع بتعقيداته، وما يفرزه من ظواهر مرضية، يمثل زخرف القول أصلا من أصوله التكوينية.
فنحن إذا بحثنا عن ماصدق هذه الضميمة الاصطلاحية وجدنا له امتدادا واضحا في مجالات عديدة كالتعليم والتربية والإعلام والفن، وما إلى ذلك، ونحن إذا وقفنا على سبيل المثال عند مجال الإعلام، وما يفرزه من ركام هائل من زخرف القول، لهالنا مقدار ما يمثله الاستسلام لتياراته الهادرة من تهديدات لسلامة أجهزة التفكير والتعبير والتدبير على صعيد سفينة المجتمع. إن ما يضخه هذا الجهاز الإعلامي الهادر من آلاف الألفاظ المغلوطة والقضايا الفارغة، يمثل عائقا دون الوعي الاجتماعي والثقافي والحضاري، ومن ثم الرقي لمختلف جوانب الشخصية الفردية والجماعية للأمة.
إن أمانة عظمى تطرح على كاهل حراس السفينة من كتاب ومفكرين ودارسين، وأصحاب الشأن السياسي والثقافي والتعليمي، وغيرها مما له مساس بعالم القول أو حقوله المتنوعة، إنها أمانة صيانة القول على صعيد سفينة المجتمع، وإقامة المتاريس والسدود التي تحول دون تسرب سموم زخرف القول إلى أهل السفينة ومجالهم الثقافي، بما يحفظ لهذه السفينة أمنها الروحي والثقافي والحضاري.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>