الشيخ أبو الحسن الندوي،حكيم الوسطية (2) – الوسطية في السلوك


عاش الشيخ أبو الحسن في الهند، وهي مجمع الديانات والمذاهب المختلفة، وعاش مع فئات من ذوي هذه المذاهب، من مسلمين وهندوس وسيخ ونصارى وغيرهم، وكان بعض هذه المذاهب يوغل في تعذيب الذات مما يراه تقـرُّبًا إلى الله تعالى وتبتُّلا. (وقد رأينا مظاهر غريبة وعجيبة لهذا التبتل، ولتلك الرهبانية، فالبعض منهم تجنب الاغتسال طول عمره، والآخر لا يرتدي إلا المسوح والثياب الخشنة، ومن كان يعيش عريانا حتى في موسم البرد القارس، وآخر يجهد نفسه بالتعبد قائما في الحر الشديد طول عمره، لا يتحرك من مكانه، ومنهم من كان يعتزل الناس، ويغادر إلى كهف أو غار، ويلزمه لا يبرحه أبدا طول حياته، وآخر يحلف ألا ياكل إلا أوراق الشجر طول حياته، ومنهم من كان يعيش حياته كلها متبتلا بعيدا عن الزواج والنساء، ويرى قطع التناسل من العبادة المقربة، وآخر يرفع إحدى يديه في الهواء ويعذّبها طول عمره حتى تجفّ، ومنهم من كان يعتقد أن حبس النفَس من العبادة، والآخر يعلق نفسه في شجرة رأسا على عقب).
هذه هي أفضل صور وأشكال العبادات الراقية المتطورة المقرِّبة إلى الله، وأعظم وسيلة لتزكية النفس وتطهير الأرواح قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام حرّر الإنسانية من هذه الأغلال والسلاسل والمصائب، وأنجاها من جميع أنواع التعيب والإيذاء، وبيَّــن لها أن هذه المظاهر ليست إلا ألعابا بدنيّة، وأصنافا من المسرحيات الجسمية، وأن الله عــزَّ وجــلَّ لا ينظر إلى قالب الإنسان كم تعذّب، وكم تحمَّل من المشاقِّ، وإنما ينظر إلى القلوب، فلا يكلِّف نفسا فوق طاقتها، وهذا ما صرَّح به القرآن الكريم إذ قال: {لا يُـــكَــلِّفُ الله نفسا إلا وسعها}(البقرة:286)، وأعلن بأعلى صوت: إنَّ هذه الرهبانية ليست إلا ابتداعا واختلاقا من عند أنفسهم، ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم}(الحديد: 27) [الرسالة المحمدية، للسيد سليمان الندوي، ص.240].
عاش الشيخ أبو الحسن وسط كل تلك التيارات والمذاهب، ولكنه تسربل بالوسطية الإسلامية، فتحقق بذلك سلوكا، ولم يتأثر بشيء من أخلاط المذاهب والنحل، كما حدث لبعض المسلمين في الهند، حتى ابتدعوا في الدين ما ليس فيه، بل انسلخ بعضهم عن الإسلام تماما، كما هو شأن البابية والبهائية والقاديانيه. لقد تحقق الشيخ أبو الحسن بروح الإسلام، فعصمه الله تعالى من الشطط، ومن الميل إلى الإفراط أو التفريط، فهو يعيش حياة الزاهدين، ولكنه يعيشها مع الناس ولا يعتزلهم، فيكون سلوكه بذلك قدوة وأسوة ودعوة. لا يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى، ولكنه يؤثر حياة السابقين من أهل الخير، في الميل إلى الزهد والرضا بالكفاف والعفاف والغنى عن الناس. يحضر المؤتمرات العالمية، وينزل الناس في الفنادق الفخمة، ولكنه يؤثر أن ينزل في بيوت البسطاء من أهل الهند، ولاسيما من أتباع جماعة التبليغ.
ومن مظاهر الوسطية في السلوك ما عُـــرف به رحمه الله من لين الجانب، ورقّة القلب، والتواضع مع الناس جميعا، وليس مع المسلمين وحدهم. ولكن ذلك كله لا يصرفه عن الجهر بالحق في المواطن التي تستوجب ذلك، فهو إذا انتهكت حرمة من حرمات الله تحول أسدا هصورا يزأر، ويستوي في ذلك أن يكون امام الحكام وأمام الرعية.
يقول د. محمد اجتباء الندوي عن أبي الحسن: (لم يكن يهمه العيش الرغيد، والطعام اللذيذ، والفراش الناعم الوثير، كان يجلس على الحصير، ويأكل الجشب، ويلبس الخشن، ينام قليلا ويسهر كثيرا، كانت حياته كلها جهادا، وكفاحا، ومثابرة، وثباتا.
كان جريئا في الحقّ، ومقداما في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل، وصريحا في تقديم قضية الإسلام ورسالته ومبادئه وقيمه ، قويا في التكلم في أمور المسلمين أمام الملوك والأمراء والحكام، ولكن بلين ورفيق، وتهذيب وادب، وخلق ونبل.) [أبو الحسن الندوي، الداعية الحكيم، والمربي الجليل: ص.19].
والذي يطالع كتابه (في مسيرة الحياة) يجد مجموعة من المواقف التي تؤكد هذا الكلام. ولكني أحب أن أسوق شهادة بما رأيت، فقد زرت الشيخ أبا الحسن في قريته (رائي بريلي) ورأيت كيف يعيش عيشة ما لبثت أن تذكرت معها كلمة الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة: «اجلس بنا نؤمن ساعة»، وأعتقد أن كل من زاره في بيته المتواضع يتذكر حياة الصحابة الكرام، وهذا ما ذكره لي أيضا الدكتور حيدر الغدير يوم زيارته له، فقد أحسَّ بالشعور نفسه. وقد قلت في نفسي يومذاك : أهذا الشيخ الزاهد هو نفسه الذي يهابه الحكَّام ويضربون له ألف حساب؟
لم يكن الشيخ أبو الحسن متحققا بالوسطية في سلوكه الفردي فقط، بل جعل ذلك من جوهر دعوته، داعيا المسلمين إلى التحقق بهذه الوسطية، ممثلا لذلك بما يناسب من الأمثلة. ففي شهر يناير من عام 1986 تأسست في مقر ندوة العلماء ـ دار العلوم، بلكنهو، رابطة الأدب الإسلامي، وقد كان ذلك اليوم مشهودا، وشارك فيه الأساتذة الضيوف من الهند ومن خارجها، كما شارك أساتذة دار العلوم ، بكلمات قيمة، وقصائد معبرة، وكان لتلاميذ الدار وطلبتها مشاركات أيضا، وكانت لغة المؤتمر هي العربية، بالإضافة إلى أنه أنشدت قصائد باللغة الأوردية، لغة المسلمين في عموم الهند، وما زلت أذكر تلميذا لم يجاوز سن الطفولة آنذاك، واسمه محمد إسماعيل، (وقد علمت من بعض زملائه أنه صار اليوم أستاذا نبيها)، ينشد بصوت شجي قصيدة إقبال الرائعة: (دعاء طارق). وقد أشاد الأساتذة الضيوف بندوة العلماء التي أثبتت أنها قلعة للعربية في القارة الهندية (وقد أشاد بذلك الشيخ أبو الحسن في كتابه: في مسيرة الحياة،2\160). إلا أن الدكتور محمد علي الهاشمي ألقى كلمة، وبعدما حيى القيمين على ندوة العلماء وأشاد بفضلهم قال كلاما مفاده ما يلي: (نحن الآن رأينا الصورة، ونرجو أن تكون الحقيقة مطابقة للصورة. فليس المهم أن تكون الصورة جميلة بقدر ما هو مهم أن تعبر عن الجوهر، وأن يكون الجوهر سليما)، ولم يكد ينهي كلمته حتى كانت توزع علينا رسالة لطيفة للشيخ أبي الحسن، وهي رسالة صغيرة الحجم كبيرة الفائدة، وعنوانها: (الصورة والحقيقة)، وعجبنا لنباهة المنظمين من جهة، ولسبق أبي الحسن إلى معالجة الموضوع في رسالة من جهة أخرى. وقد كان هذا دأبه في كل مجلس وفي كل آن: التركيز على الجوهر لا على الصورة، وهو بذلك يستوحي حديث رسول الله [: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم»(رواه مسلم).
ولقد كانت للشيخ أبي الحسن كلمة أخرى تدل على المعنى نفسه سمعناها منه كثيرا، ودونها في بعض كتبه، وهي ضرورة العناية بالقيمة لا بالقامة. يقول في كتابه (في مسيرة الحياة: 2\76): «ليست العبرة بالقامة والحجم والكثرة، وإنما العبرة بالقيمة. هناك شيئان يوزنان: القامة والقيمة، ولكن الله سبحانه وتعالى فضل القيمة على القامة.إنني كلما أقرأ الآيات الأخيرة من سورة الأنفال، عجبت وعجبت وكدت أحار وأغلب على أمري، إذا قرأت قول الله تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}(الأنفال:73).
لمن يقال هذا؟ لهذه الحفنة البشرية التي تألفت من المهاجرين والأنصار، تألفت من الأنصار أصحاب الدار ومن المهاجرين المغتربين، الذين لم يتجاوز عددهم خمسمائة وألف.. ما نسبة هذه القلة القليلة التي كانت تعيش في يثرب التي سميت بعد ذلك بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما وزن هذه القلة وما عدد أفرادها؟ ما وزن هذه القلة في الميزان السياسي، وفي الميزان الدولي،وفي الميزان الاجتماعي، حتى في الميزان العلمي؟ إنهم -كما أعتقد- لم يبلغ عددهم ألفين…إنه يقال لهذه المجموعة الصغيرة التي قام عليها الإسلام، وقامت على أعناقها رسالة الإسلام…فثبت بذلك أن المسلم بقيمته لا بقامته».

أ. د. حسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>