اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني


مناقشة الشطر الثاني من العنوان
أعلاه : مباني…
البنية لغة : بناء على كل ما سبق من توضيح لمعاني الشطر الأول من هذا العنوان، حيث استشهدنا بآيات من القرآن الكريم في الموضوع، وناقشنا دلالاتها انطلاقا مما تتضمنه كل واحدة منها من قواعد التصريف والنحو، نشرع بإذن الله تعالى في مناقشة الشطر الثاني الذي هو «مباني ومعاني» تنفيذا لما واعدنا به في الحلقة الأولى : المحجة 383، وسنستخصر كل القواعد التي استشهدنا بها في الشطر الأول : مفردة أو مركبة لمحاولة ربطها بدلالات مكونات الشطر الثاني، الذي هو «المبنى والمعنى» ثم نقارن النتيجة مع دلالة مصطلح البنية كما هو معروف عند علماء التصريف، أو في معاجم المصطلحات بصفة عامة، نفعل هذا بإذن الله تعالى، ونحن نعلم مسبقا أن تعريف البنية اصطلاحا لا يشمل كل مكونات الكلام من حروف المباني أو المعاني، وغيرها من الأسماء والأفعال والصفات والجمل بأشكال تراكيبها الأصلية والفرعية مما يمكن أن يدخل ضمن الدلالة اللغوية للمصطلح المشتق من دلالات الباء والنون وما يثلثهما من ياء أو واو، كما سنرى.
وقصدنا من هذه الإشارة هو التنبيه إلى أن كل مكونات الخطاب لها وظائف دلالية ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء محاولة فهم خطاب ما باللغة العربية أو نقده أو تحليله، هذا عن النصوص المكتوبة باللغة العربية السليمة بصفة عامة، ثم النصوص الشرعية بصفة خاصة، وفي مقدمتها القرآن الكريم وحديث سيد المرسلين. والذي يبدو أن هذا موضوع يحتاج إلى بحث خاص، وعليه نؤجل الكلام عنه إلى فرصة ومجال يناسبانه. لنعود إلى ما نحن بصدد شرحه مما يمهد للموضوع الذي عدلنا عنه مؤقتا. وهو توضيح دلالة كلمة «مباني» كما وردت في العنوان أعلاه، وعليه نقول وبالله التوفيق : كل من كلمتي مباني ومعاني وردت بصيغة جمع التكسير، فمفرد مباني هو «مبنى» كما أن مفرد معاني هو «معنى». والذي يعنينا من بين الكلمتين في هذا السياق في الدرجة الأولى هو كلمة «مبنى» التي يترتب عنها المعنى بالضرورة وهي أن كلمة «مبنى» مصدر ميمى على وزن مَفْعَل أي أنه مصدر زيدت الميم في أوله، وفي توضيح هذه القاعدة يقول المبرد : «اعلم أن المصادر تلحقها الميم في أولها زائدة. لأن المصدر مفعول، فإذا كان كذلك جرى مجرى المصدر الذي لا ميم فيه في الإعمال وغيره، وذلك قولك : ضربته مَضْرِبا أي ضربا. وغزوته غزوا ومغزى، وشتمته شتما ومشتما» (المقتضب 2/119).
ويبدو أن المصدر الميمى أقوى دلالة من الذي لا تزاد الميم في أوله : وفي هذا السياق يقول عباس حسن : «يصاغ من المصدر الأصلي للفعل الثلاثي وغير الثلاثي صيغة قياسية تلازم الإفراد والتذكير، وتؤدي ما يؤديه هذا المصدر الأصلي من الدلالة على المعنى المجرد.. لكنها تفوقه في قوة الدلالة وتأكيدها، وتسمى هذه الصيغة المصدر الميمي…(ن الوافي 3/231).
هذه دلالة هذه الكلمة : «مباني. كما جاءت بصيغة الجمع في العنوان أعلاه. أما أصلها المعجمي فيحتمل شكلين اثنين : أولهما «بَنَا» بألف ممدودة في آخره، وثانيهما «بنى» بألف مقصورة في آخره. وهذا يعني أن حرف العلة في آخر مثل هذا النوع من الكلمات قد يكون واوا، أو ياء ولكل نوع دلالته الخاصة يقول ابن منظور بالنسبة للنوع الأول : «بنا» «بنا في الشرف يَبْنُو. وعلى هذا تؤول قول الحطيئة : أولئك قوم إن بَنَوْا أحسنوا البُنا» بضم الباء.
أما النوع الثاني : «بنى» فيمثل له بقوله « وبنى فلان على أهله بناء…»(ل ع 14/89ع1 و97 ع 2 مادة بنى).
وهذا يعني أن شكل كتابة حرف العلة « ب ـ ن ـ ى أو!» في آخر الكلمة من هذا النوع قيمة خلافية، أي أنه ينوع المعنى لأننا نلاحظ أن المعنى المترتب عن (ب ـ ن ـ ا) غير المعنى المترتب عن (ب ـ ن ـ ى). إذ الملاحظ أن لكل نوع مجاله الذي تنمو فيه معانيه وتتفرع بناء على السياق الاجتماعي الذي يرد فيه، أو حسب تنوع صيغ المشتقات التي تتفرع عنه بزيادة حرف على حروفها الثلاثة الأصلية أو تغيير شكلها بتنويع حركة حرف من حروفها.
ولهذا الذي أشرنا إليه من المعاني الفرعية أمثلة كثيرة في المعاجم مثل لسان العرب 14 مادة بنى. والذي يعنينا من بين الأصلين المشار إليهما أعلاه «ب ـ ن ـ ى أو ا» هو النوع الأول «ب ـ ن ـ ى» لأنه أصل لكلمة البنية التي نحن بصدد تعريفها لغة واصطلاحا : فما هي البنية لغة؟ وما هو الأصل الذي اشتقت منه؟ وما هي دلالاته الفرعية التي يعتبر معنى البنية واحدا منها؟!.
البنية من بنى يبني يقول ابن منظور : «ابن الأعرابي : البِنى : (بكسر الباء) : الأبنية من المدر أو الصوف، وكذلك البِنى (بكسر الباء أيضا) من الكَرَم، وانشد بيت الحطيئة :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البِنى
وقال غيره (أي غير ابن الأعرابي) : يقال بِنْية، وهي مثل رِشوة ورِشا كأن البنية الهيئة التي بني عليها مثل المشية والرِّكبة. وبنى فلان بيتا بناء.. وابتنى دارا وبنى بمعنى.. الجوهري : والبُنى (جمع بنية) بالضم مقصور مثل البِنى. يقال بُنية وبُنى (بضم الباء) وبنية وبِنى بكسر الباء مقصور، مثل جزية وجِزى، وفلان صحيح البِنية أي الفِطرة..» ل ع 14/94ع 1-2
هكذا يتضح من الأمثلة أعلاه أن مادة بنى وحدة أساس لبناء كيان حسي مشاهد بالعين المجردة كالدار والبيت، أو المعنوي كالفطرة، ومن موادها في المحسوسات : المدر والصوف. أما في المعنويات فالأفكار والقيم. وفيما يوضح اتحاد الدلالتين : المعنوية والحسية في الأصل الذي هو فعل بَنَى. يقول ابن منظور : والبِنية (بكسر الباء) والبُنية (بضمها) : ما بنيته، وهو البِنى (بكسر الباء) والبُنى (بضمها) وانشد الفارسي عن أبي الحسن:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البُنى(بضم الباء)
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا اشدُّوا
وروي : أحسنوا البِنى (بكسر الباء)… وقد تكون البناية في الشرف والفعل كالفعل. قال يزيد بن الحكم:
والناس مبتنيان : محسود البِناية أو ذميم
وقال لبيد :
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه
فسما إليه كهلها وغُلامها (ل ع 14/94 ع 1)
هكذا تتضح القيمة الدلالة اللغوية لكلمة (ب ن ى) التي هي أصل البِنية. وهكذا تدل كلمة بنية على هيئة خاصة كمشية ورِشوة، وهي دلالة زائدة على معنى الأصل إذ أن الهيئة تستوجب ذوقا معينا حسيا كان أو معنويا. ولذا توزعت دلالات فروع هذه المادة على عدد من مجالات حياة الانسان (فا) البِنى نقيض الهدم، والبناء المبني والجمع أبنية، وأبنيات جمع الجمع، والبَنَّاء مُدَبر البُنْيان وصانعه، والبِنية، والبُنية ما بنيته، ويقولون بنى الرجل بامرأته إذا دخل بها، والبِناء لزوم آخر الكلمة ضربا واحدا.
والبَنِيَّة على فَعيلة : الكعبة لشرفها إذ هي أشرف مبنى يقال : لا ورب هذه البَِنيَّة ما كان كذا وكذا، وبنى لحمَ فلانٍ طعامُه إذا سمَّنه وعظمه، وتبنى السنام سَمِق، والمََبْناة والمِبناة : كهيئة الستر والنَّطع، والبانية من القسي: التي لصق وترها بكبدها حتى كاد ينقطع وترها في بطنها من لصوقه بها. وهو عيب، والبَواني : قوائم الناقة.
(يقال) والقى بوانيه : أقام بالمكان واطمأن والباني : العروس الذي يبني على أهله. (ويقال) القت السماء بَرْك بوانيها يريد ما فيها من المطر. قال ابن الأثير : والبواني في الأصل : أضلاع الصدر، وقيل : الأكتاف والقوائم الواحدة بانية. وفي حديث خالد : فلما القى الشام بوانيه عزلني واستعمل غيري، أي خَيْره وما فيه من السعة. قال الشيخ أبو محمد بن بري : وجارية بنَاة اللحم أي مبنية اللحم قال الشاعر :
سبتْه معْصر من حضر موت
بَناة اللحم جما : العظم.
قال : بَناة اللحم في هذا البيت بمعنى طيبة الريح أي طيبة رائحة اللحم. وقوله في الحديث : من بنى في ديار العجم ويعمل نيروزَهُمْ ومَهرجانَهم حشر معهم، وبنى هنا بمعنى أقام. ل ع 14 مادة بنى
هكذا تتعدد مجالات استعمال مشتقات مادة بنى وتتنوع ولا شك أن بينها رابطة أخوية يثبتها الأصل الذي اشتقت كلها منه والدليل على ذلك هو وجود الباء والنون في كل منها وهذا ما يوجب استحضار دلالاتها في مجالاتها بنسبة : أثناء تأمل دلالة بِنْية. لأنها واحدة من ذلك المجال العام لدلالة (ب + ن). اقتصرنا في هذه الملاحظة على الحرفين الأولين فقط لكلمة بنى لسببين : أولهما ورود الحرفين في كل المشتقات التي ذكرناها أعلاه. وثانيهما أن الحرفين الأولين هما المؤسساة لدلالة الأفعال الثلاثية أو أغلبها بدليل أن هذه الكلمة التي نناقشها (بنى) تحتمل أصلين معجميين إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تغيير الحرف الأخير (ب ـ ن ـ ى أوا) فيكون الفعل بنى يبني على وزن فَعَل يفعِل بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع أو بَنَا يَبْنُو على وزن فَعَل يفعُل بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع فالمثال الأول من باب ضَرب يضرِب، والثاني من باب نصِر ينصُر. ولكل باب مجاله. وعليه ينبغي التنبيه إلى أن بنى بألف مقصورة غير بنا بألف ممدودة، نقول هذا حتى لا يتم الخلط بين دلالة الكلمتين يقول ابن فارس «بنى : الباء والنون والياء أصل واحد، وهو بناء الشيء بضم بعضه إلى بعض، تقول بنيت البناء أبنية..»
ويقول : «بنى : الباء والنون والواو كلمة واحدة وهو الشيء يتولد عن الشيء كابن الانسان وغيره. وأصل بنائه بنى والنسبة إليه بنوى…» معجم مقاييس اللغة 1/302-303. باب الباء والنون وما يثلثهما في الثلاثى.
هذه هي دلالة البنية لغة، وذلك أصلها وعلاقاتها بما تفرع عن الأصل نفسه. فما هي البنية اصطلاحا، وهل لها علاقة بمعنى ما من المعاني اللغوية العامة أي المتفرعة عن الأصل نفسه أو الخاصة وهو ما تم وصف كلمة بنية به دون غيرها.
د. الحسين كَنوان
—————
المراجع : – المقتضب للمبرد
- النحو الواقي لعباس حسن
- لسان العرب لابن منظور
- معجم مقاييس اللغة لابن فارس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>