وسائل التربية في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم 2 1


أود في هذه الكلمة أن أتحدث عن ملامح المنهاج التربوي النبوي وهي بعض الوسائل التربوية التي اعتمدها النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه رضوان الله تعالى عليهم وكذا بعض ثمار هذه التربية المباركة. وقبل ذلك أقول:

< إن الله تعالى -وهو الخبير بنفوس عباده- {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(الملك: 14)، يعلم سبل التأثير فيهم لينفعلوا للخير ويستجيبوا للإصلاح. < إن الله تعالى هو المزكي على الحقيقة {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء}(النور:21) إن هدف التزكية هو التحقق بولاية الله تعالى. وطريق الولاية هو التقرب إلى الله تعالى. وغاية التقرب هو الوصول إلى محبة الله تعالى. لذلك رحمنا الله تعالى ففرض علينا فرائض ملزمة، وعلم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تقصيرنا فسن لنا نوافل نرقع بها الرتق ونجبر بها الكسر ونكمل بها النقص.

< إن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو أعظم مرب – هو نموذج عبد الله وجاء ليصنع نماذج عباد الله، وقد توسل إلى ذلك بكل الوسائل الشرعية المتاحة، بل أبدع وسائل عديدة للتأثير في نفوس أتباعه. والوسيلة كما يقول الراغب في المفردات: التوصل إلى الشيء برغبة.
والوسائل التربوية أشكال تجلي الأرواح، وأعمال تثير الأحوال وأزمان تبرز معاني. لذلك فأحسن الوسائل آكدها رغبة وأقواها تأثيرا في القلوب، وأعلاها تزكية للأحوال وأكثرها إنتاجا في الواقع. أما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه الوسائل التربوية كان مبدؤها الصحبة ومركبها المحبة ومنتهاها القدوة، فعلى قدر طول الصحبة ترسخ المحبة فتحسن القدوة، ولنا في حال أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة. وإن ترد مزيد بيان فاسمع مقالة عالم عامل هو سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ رحمه الله تعالى: ((واعلم أنه لا أدب كأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلق كأخلاقه، فمن وفقه الله أعانه على البحث عن أخلاقه والاقتداء به، ليتخلق منه بما قدر عليه، ووصل إليه، وما من أحد إلا وقد هم ولم. فيا سعادة من اقتدى به واستن بسيرته وأخذ بطريقته وامتلأ قلبه من محبته في دق ذلك وجله وكثره وقله {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران:31) {وإن تطيعوه تهتدوا} (النور:54) {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}(الأحزاب :71) (قواعد الأحكام ص 125).
بعض الوسائل التربوية النبوية:
1- القدوة: وهي أس الوسائل وأمها، ولقد أعطى فيها الحبيب عليه الصلاة والسلام المثال الذي يحتذى ولا يدرك، فلم يأمر بشيء إلا كان أول من يأتيه بل يحسنه، ولم ينه عن شيء إلا كان أول من يتركه ولا يقربه. والناظر في أحواله صلى الله عليه وسلم يرى عجبا -وأي أحواله كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها لم يكن عجبا- فعلاقته بربه تعالى كان شعارها: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) ((وأنا أتقاكم لله وأخشاكم له))، وعلاقته بنفسه أنه صلى الله عليه وسلم كان بعيد الهمة فلم يكن يرضى أن يكون أحد أحسن جوابا منه، وفي علاقته بأهله يأتي قوله ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))، وفي علاقته بأتباعه رضي الله عنهم كان {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم}(التوبة : 128)، وفي علاقته بخصومه كان أبر الناس وأعدل الناس وأصدق الناس، وفي علاقاته بمطلق الخلق كان {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 107). لذلك فقد تسابق أصحابه للاقتداء به وحاول من جاء بعدهم السير على هداه واستيقن الجميع أن شأوه عليه الصلاة والسلام بعيد لا يدرك. ألا وإن التربية إصلاح، ألا وإن القدوة محور هذه التربية، ألا وإنه لا أثر في الإصلاح لمن لم يتحل بالصلاح.
2- المباشرة: وأقصد بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يباشر تربية أصحابه بنفسه ولم يأذن لأحد من أصحابه بفعل ذلك نيابة عنه إلا من كمل حاله وتخرج من مدرسته. فرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن أمر بالبلاغ لم يفتر ولم يكسل -حاشاه- بل بذل وقته وجهده وماله وكله لما أمره ربه به، فكان يربي أصحابه في بيته وفي شعاب مكة وفي بيوت بعض أصحابه وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم وفي المسجد النبوي وفي الغزوات وفي السوق وفي الطرقات وفي كل الأحوال. إنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن المسؤولية عليه فلا يكلف بها غيره ، لأنه أوثق في البلاغ وأقرب إلى النجاح وأثبت للحجة وأدعى للاتباع وأسرع في السير وأضمن للنتائج وأحفظ للجهود والأوقات، وإذا كلف من يعينه على أمر التربية كلف بفقه، وأوصى برفق، وتتبع بحذق.
3- الرحمة والرفق: إذا كانت التربية في أصل مفهومها هي إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، وهي إذن تدرج بأحوال المتربي من حال سيئة إلى حال صالحة أو من حال صالحة إلى حال أصلح. فإن ذلك لا يتم إلا برفق ورحمة. ولقد تتبعت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته رحيما في كل الأحوال، غير أنه في أمر التربية كان أرحم، ولقد اجتمعت في رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أخلاق الرفق، قال تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}(آل عمران : 159). ولو لم يكن كذلك ما كانت لتطيعه نفوس العرب الذين تعودوا على الأنفة وعدم الخضوع لأحد فصاروا بسبب رفقه ورحمته أطوع له من بنانه وفدوه بالمهج. واقرأ إن شئت ما قاله خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه إذ قال: ((خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله هلا فعلته، وما ضرب صلى الله عليه وسلم بكفه عبدا ولا امرأة إلا أن يقاتل في سبيل الله)). وأمثلة رفقه وعفوه وعطفه ورحمته أكثر من أن تحصى، كيف وقد قال عنه ربه تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.(الأنبياء : 107)
4- التدرج: إن خلق الله تعالى مبني على التدرج، ونفوس العباد يصعب عليها التحولات اللحظية الفجائية، والتربية النبوية إصلاح عميق وتحول كامل عن أحوال مرغوب عنها إلى أحوال مرغوب فيها، لذلك فقد اعتمد في منهاجه على تدرج واضح سلس وغير متسرع متبعا برنامجا فطريا قرآنيا يهدف إلى: أ- إصلاح الأرواح قبل الأشباح. ب – تحقيق المقاصد والغايات لا الوقوف عند الطقوس والشكليات. فإصلاح القلوب له الأولوية، وتقوية العلاقة بالله تعالى لها الصدارة، والتخلق بأخلاق القرآن عليها المدار، والقيام للإصلاح بعد التحقق بالصلاح دليل الرشد وطريق الفلاح. والوسائل أشكال “فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده إلا بعدا من الله”، ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. وانظروا إلى الرسول المربي صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يرسل معاذا رضي الله عنه إلى اليمن -وما أدراك ما معاذ- ماذا قال له؟ وبم أوصاه؟ روى البخاري ومسلم -واللفظ له- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: ((إنك ستلقى قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). فانظر إلى الترتيب في الأوامر والتكاليف، وانظر إلى جملة ” فإن هم أطاعوا لذلك” تر شرط التحقق والتخلق قبل المرور من مرحلة إلى مرحلة.
5- القصص وأخبار الماضين: إن الإنسان مجبول على الأنس، مستوحش من العزلة، قلما يثبت على حال إذا كان وحده، يتأثر بغيره سلبا وإيجابا، لذلك ترى القرآن الكريم يكثر من ذكر قصص الماضين لتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم {كذلك لنثبت به فؤادك} (الفرقان : 32) ومن خلاله تثبيت وحث الصحابة على المضي في صراط الله المستقيم على ما فيه من امتحانات. إن أخبار الصالحين من سلف المسلمين لا تحقق المتعة والأنس فقط، بل تعلم أن طريق الخير مأهولة بالرواد مليئة بالمدلجين المشمرين الذين شقوا طريق الصلاح والإصلاح بأقوالهم وفهومهم ومواقفهم، وأقاموا عليها معالم للسالكين من بعدهم بأيديهم وأرجلهم، وعرفوا ترابها بعرقهم، ولونوه بدمائهم. فصحبة هؤلاء من خلال مدارسة سيرهم تورث من أخلاقهم وتقدح من عزائمهم وتعلم من فهومهم ومواقفهم وتقول لنا: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}(الأنعام : 90). وإن أخبار الطالحين لا تكسب النفور من أحوالهم فقط، بل تبين أسباب غيهم وجهلهم، وتوضح مداخل الشيطان إلى قلوبهم وتعلم ببطلان سبلهم وخسران مساعيهم. لقد أكثر الحبيب عليه الصلاة والسلام في تربيته من ذكر أخبار الماضين من الصالحين وغيرهم في عدد كبير من المناسبات لتكون منارا واضحا وأسلوبا مختصرا لأخذ العبرة والاستفادة من الدرس، واللبيب بالإشارة يفهم {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}(يوسف : 111).
د. يوسف العلوي


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “وسائل التربية في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم 2