- مقدمة في الموجبات: لماذا يجب أن نفقه الواقع؟ فقه الواقع ضروري لأي تخطيط، وإلا ضاع الهدف” لعدم تحديد المنطلق. وفقه الواقع ضروري لأي دعوة إصلاحية، وإلا وضع الشيء في غير موضعه، وأُسنِد الأمر إلى غير أهله. وبما أن العمل الإسلامي اليوم بكل أشكاله وألوانه يمر في مرحلة غاية في الدقة والحرج، كأنها عنق زجاجة أو سّمُّ خِيَـاط، فـي ظـلِّ الجـولة الـراهنة مـن الحــرب الصـليـبيـة -الصهيونية -على الإسلام، تحت مسمى “الإرهاب”” حيث اتخذت أمريكا والغرب ومن ورائهما الصهيونية العالمية الحركةَ الإسلاميةَ، بكل اتجاهاتها وتياراتها” بما فيها تيار الوسطية والاعتدال، هدفاً مباشراً ومعلناً لحملتها العدوانية المسعورة. وقد وجدت الأنظمة العميلة الحاكمة في العالم الإسلامي في تلك الحملة فرصة لتصفية حساباتها التاريخية مع الحركات الإسلامية” فانخرطت هي الأخرى في حرب العمل الإسلامي، والتضييق عليه، وتجفيف ينابيعه بشتى الطرق والأساليب” كالحملات الأمنية والتشهيرية الهوجاء، وإصدار القوانين التعسفية التي تخنق الأنفاس وتصادر الحريات، وإطلاق أيدي المخابرات وأجهزة القمع في الاعتقالات والمداهمات، تحت طائلة التهم الجاهــزة، ودون حاجـة إلـى أدلة أو إثباتات. وبما أن الأمر كذلك فقد صار تجديد العمل الإسلامي فريضة شرعية وضرورة واقعية، ولا سبيل إلى ذلك بغير فقه الواقع الدولي والإقليمي والوطني الجديد، ذلك بأن تجديد بناء الأمة، وإقامة الدين” التي هي الهدف الاستراتيجي للعمل الإسلامي المنظم، يتطلب: -فِقهاً لما به يكون التجديد -وهو الدين -مُمَّثلاً في القرآن والسُّنّة. -وفقهاً لما له يكون التجديد -وهي الأمة -ممَّثلة في واقع المسلمين. -وفقهاً لكيف يكون التجديد -وهو المنهاج -ممّثلاً في كيفية تـنـزيل الدين على الواقع وإحلاله فيه. وكل ذلك مرتبط بالواقع بشكل ما من الارتباط. وإذا جاز تصور تحصيل الفقه الأول بمعزل عن الواقع فإن الفقهين الآخرين لا يستطاع تصور تحصيلهما دونه” فوجب الانطلاق من “فقه سديد” للواقع في أي محاولة للتجديد الصحيح.
- فقه الواقع: المصطلح والدلالات: “فقه الواقع” مركب اصطلاحي إضافي يتكون من مصطلحين: الفقه ثم الواقع، ونبدأ في دراسة مفهوم هذا المركب بالمضاف إليه ثم بالمضاف. – الواقع في لسان العرب: الساقط والنازل، قال ابن فارس: “الواو والقاف والعين: أصل واحد يرجع إليه فروعه، يدل على سقوط شيء” مقاييس اللغة/ وقع. وعند الراغب أن “الواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ (وقع) جاء في العذاب والشدائد” المفردات/ وقع.
وأما الواقع في الاستعمال العربي المعاصر، فيرى الدكتور عبد المجيد النجار أن المراد به: “ما تجري عليه الحياة في مجتمع ما، من أسلوب في تحقيق أغراض ذلك المجتمع، ويدخل في ذلك مجموع الأعراف والتقاليد والنظم التي تتفاعل” فينشأ منها الأسلوب في تحقيق الأغراض. وأسلوب تحقيق الأغراض الحياتية يشتمل على عنصرٍ اجتماعيٍّ متمثلٍ في بنية الترابط الاجتماعي، وطبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يمارس من خلالها الأسلوب الحياتي، كما يشتمل على عنصرٍ اقتصاديٍّ متمثل في نظام الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وما يجري عليه من قواعد، كما يشمل عنصراً سياسياً يتمثل في طبيعة الحكم القائم في المجتمع ونظامه، وعنصراً ثقافياً متمثلاً في أنماط التعبير الفني التي ينتهجها الناس في تصوير آمالهم وآلامهم وأفراحهم وأتراحهم”(1).
وللدكتور (الشاهد البوشيخي) تعريف وتقسيم آخر لواقع الأمة، فأما التعريف فيرى فيه أن: “الواقع هو: الحالة التي عليها الأمة الآن، فيدخل فيه كل الجزئيات والكليات التي تتكون منها الأمة الآن حسب حالتها الراهنة”(2)، و أما عن تقسيمه لواقع “الأمة” فيرى أنه: “انسجام مع التحليل السابق لمفهوم الأمة”(3)، نترك التصنيف المألوف للواقع الذي يجزّئ الحياة العامة إلى: واقع سياسي، وواقع اقتصادي، وواقع اجتماعي…إلخ، مستبدلين به التصنيف حسب “العناصر المكونة لمركّب الأمة” من واقع الجمع البشري لها، وواقع وحدتها والأمر الجامع لها، وواقع قصدها والرسالة التي تضطلع بها. ويقصد بواقع الجمع البشري للأمة: الحالة التي عليها الناس الذين يشكلون الجسم “المادي” للأمة: كثرة وقلة، غنى وفقراً، علماً وجهلاً، صحة ومرضاً، شعوباً وقبائل، طبقات ومستويات، مؤسسات وتنظيمات. ويقصد بواقع وحدة الأمة والأمر الجامع لها: الحالة التي عليها ممارسة الإسلام والتدين في الأمة، والروابط الجامعة المنبثقة عنه من: عقيدة وعبادة وأخلاق وشريعة، وما درجة ذلك قوةً وضعفاً، اتساعاً وضيقاً، صواباً وخطأً. ويقصد بواقع قصد الأمة والرسالة التي تضطلع بها: الحالة التي عليها تأهل الأمة للشهادة على الناس، ومدى أدائها لها في مختلف المجالات بالحال والمقال، ما درجة الأهلية” وسطيةً وخيرية؟ وما درجة الشهود الحضاري والشهادة” إمامةً وتبليغاً؟ (4). ويرى الدكتور البوشيخي أن للواقع زمناً يتحرك فيه، ومجالاً يحيط به ويؤثر فيه، أو يتأثر به. فأما الـزمـن: فهـو المعيـش فـي بعـديـه المؤثرين: الماضـي القـريب، والمستـقبل القـريب، وهـو ما قـد يسمى ب-”العصــر”. ولا يستطاع تحديده علمياً بيـوم أو شهــر أو عام” لتحركه المستمر بتحرك العائش فيه، ويمكن تحديده دراسياً من أجل ضبط المعطيات والنتائج. وأما المجال: فهو المحيط الخارجي الذي يتبادل التأثر والتأثير مع الواقع الـداخلي، حسـب سـنن التجـاور تـآلفاً أو تخالفاً. وإنما يُحدَّدُ بالأثر، ويصـنف حسـب القوة والضـعف والقبـول والرفض. وأكبر حاضر في المجال ومؤثر في واقع الأمة إلى حد “الصنع” أحياناً، أو ما يشبه “الصنع” هو ما اصطلح عليه ب-”الغرب”(5). والخلاصة أن “الواقع المقصود: هو الحالة التي عليها الأمة بكل مكوناتها في هذا الظرف المعيش، داخل المجال الدولي المحيط، وهي تتحرك فاعلة منفعلة متفاعلة”(1).
- وأما الفقه في لسان العرب فهو: “العلم بالشيء والفهم له” لسان العرب/ فقه. وعند الراغب: هو “التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد” فهو أخص من العلم” المفردات/فقه. وهو عند الجرجاني: “عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه” التعريفات/فقه. وقد أحسن الحكيم الترمذي حين قال: “الفقه بالشيء: هو معرفة باطنه، والوصول إلى أعماقه”(2). “وبعد دراسة الفقه في عشرين موضعاً من القرآن، تبين للشيخ محمد رشيد رضا أنَّ المراد به: نوع خاص من دقة الفهم والتعمق في العلم الذي يترتب عليه الانتفاع به”(3). وهذا كله يفضي إلى أن الفقه: فهم دقيق نافذ إلى البواطن والأعماق والأغراض. فإذا أضيف إلى الواقع أمكن تعريفه هكذا: – فقه الواقع هو: الفهم الدقيق النــافــذ إلى أعمـــاق ما يجري في الظرف المعيش، والمجال المحيط. وبتحليل التعريف إلى عناصره نجد: – الفهم بشروطه، وهو أداة الفقه. -والوضع بمكوناته، وهو موضوع الفقه.
-والظرف المعيش بجريانه، وهو الإطار الزماني. -والمجال المحيط بتفاعلاته، وهو الإطار الإنساني. ولا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير إحكام أمر الأداة: أدمغة وأجهزة ومؤسسات، ومنهج في التوثيق والتدقيق والتحقيق، ويقوم على الاستيعاب والتحليل والتعليل قبل أي تركيب، مُقدِماً عند الدراسة الوصفَ على التاريخ، والجزئي على الكلي… إلى آخر ما يجب إحكامه من أمر الأداة” لتأمين ذلك المستوى من الفهم. كما لا سبيل إلى فقه واقع الأمة بغير التمكن من مكونات الوضع المــوضـوع، والتـتبــع الأفقــي والعمـودي لما يجري في الظرف المعيش، ويتفاعل في المجال المحيط. لا جرم أن هذا العبء ضخم، وأن التخطيط له بُلْهٌ، وإنجازه يحتاج الى صفوة من أولي العزم، ولكن إذا وجدت الشروط وزالت العوائق فإن المشروع بإذن الله -تعالى – يكون.
د. عبد الكبير حميدي