التكنولوجيا الرقمية وأثرها في تطوير البحث العلمي


يمثل ظهور التكنولوجيا الرقمية منعطفًا مهمًا في تاريخ بثّ المعرفة والوصول إليها، فبعد أن كان نقل المعرفة وبثها يعتمد على أوعية مادية، مثل: الألواح الطينية والبردي والرَّق والجلد، ثم الورق الذي استخدم في البداية لتسجيل المخطوطات، ثم وعاء الكتاب المطبوع في منتصف القرن الخامس عشر ميلادي، ثم صارت الأمور في ركاب التطور السريع المتلاحق، نتيجة ظهور تكنولوجيا الاتصال والمعلومات التي غيرت من حياة الناس كثيرا في العقدين الماضيين.
ولا بد أن نلفت النظر هنا إلى أن التجديد التربوي في مجال التكنولوجيا أصبح ضرورة تقتضيها متغيرات العصر الحديثة، للإفادة إلى أقصى حد ممكن من التقنيات الجديدة المتطورة. ولا يتم ذلك بطريقة عفوية بل لابد أن يتم على ضوء البحث العلمي المسخر لخدمة التعليم وعلاج مشكلاته وبطريقة مدروسة متأنية تخاطب جميع الفئات، وتربي جيلا يعرف كيف يستفيد من هذا التطور التكنولوجي الهائل، ويسخره في مصلحته، وينهض به في مجال البحث العلمي, فهو وإن لم يسهم في قطع المراحل في صناعة هذه التكنولوجيا، فعلى الأقل فليحسن الاستفادة منها، لا أن يجعلها وسيلة لتدمير ما بقي فيه من رمق.

أولا: أهمية التكنولوجيا الرقمية في التعليم والبحث العلمي:
التكنولوجيا الرقمية أضحت واقعا ملموسا في مجال البحث العلمي؛ إذ هي الطريق السحري الموصل نحو المعلومات، فلقد أصبح الباحث قادراً بفضل تكنولوجيا الاتصال ورقمنة المعلومات أن يبحر في عباب المكتبات الرقمية الشاملة والبرامج المتخصصة والمواقع الإلكترونية للجامعات ومراكز البحث المتخصصة ليحصل على ما يريد من المعلومات في مجاله. وذلك لما تتيحه هذه التكنولوجيا من إمكانيات هائلة للبحث في الببلوغرافيات، والنصوص وسائر أنواع المدخلات في هذه البرامج، وتوفره من أي مكان في العالم باستمرار، وإمكانية تخزين المعلومات واسترجاعها، بتيسير عجيب.
ويمكن رصد أهميتها في البحث العلمي فيما يلي :
< تمكين الباحث من الوصول إلى محتويات المكتبة ومصادرها في أي وقت يشاء ومن أي مكان يوجد فيه : في منزله أو مكتبه الخاص أو أماكن أخرى خارج مبنى المكتبة ، دون الحاجة للذهاب إلى المكتبة بل إن المكتبة الرقمية تأتي بالمكتبة إليه .
< تيسير مهارات التصنيف والفهرسة للمراجع العلمية.
< تحقيق إمكانية البحث العلمي المؤسسي، بين عدد من الباحثين، إذ يمكن لهم (ولو تباعدوا في أماكنهم) استخدام نفس مصادر المعلومات في المكتبة والبحث فيها في الوقت نفسه.
< تحقيق انجاز المشاريع الكبرى التي تحتاجها الأمة ضرورة لتسريع يقظتها، وتحقق مفهوم الشهادة على الناس، مثل: المعجم التاريخي للغة العربية، الذي يصعب انجازه دون اعتماد الوسيلة الرقمية، التي تتيح خيارات كثيرة لإنجازه.
< إمكانية تحديث المعلومات في المكتبة الرقمية، حيث إنها تحتوي على بعض مصادر المعلومات التي تحتاج إلى تحديث باستمرار كالموسوعات والأدلة وغيرها من المراجع، حيث تُضاف التعديلات الجديدة التي يدخلها الناشر آلياً إلى قاعدة المعلومات في المكتبة.
< تقليل الحجم المحسوس لتخزين المعلومات.
< تقليل التعامل الفعلي مع الأشياء بنفسها كأن تستخدم الكتاب نفسه دائماً ولمرات عدة حتى يبلى.
< تخفيض تكاليف الحصول على المعلومات والمراجع العلمية
لهذه الأمور وغيرها تعد المكتبة الرقمية من التجديدات الحديثة المستخدمة في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية مثل مكتبة الكونجرس، ومكتبات سـتانفورد الرقمية والتابعة لجامعة ستانفورد، ومشروع المكتبة الرقميـة التابعة لجامعة كاليفورنيا في بركلي، ومكتبة جامعة كولومبيا التي نفذت عددا من الخطوات أو المبادرات من أجل المكتبة الرقمية. أما بالنسبة للمملكة المتحدة فقد قامت بمشروع مكتبة بيوولف الإلكترونية البريطانية الذي يوفر للباحثين صوراً رقمية للمخطوطات المحفوظة فيها، والوثائق التاريخية بأصنافها المختلفة، مما أسهم بشكل كبير في الرقي بالبحث العلمي لديهم، والوصول به إلى درجات متقدمة جدا.
ونذكر هنا ما نهضت به تركيا الحديثة من إنشاء مراكز لحوسبة الترات، وتعميم التعليم الرقمي في المدارس والجامعات بواسطة اللوحات الذكية، والأجهزة المتطورة، وقد أنشئ بآخرة مركز المخطوطات والوثائق التي سيجمع جميع المخطوطات والوثائق في تركيا ويوفرها بشكل رقمي للباحثين أينما وجدوا في هذا العالم، وليت باقي الدول الإسلامية تنفذ مثل هذه المشاريع لتنقذ ما لديها من مخطوطات ووثائق التي أصبح كثير منها في ضيافة الأرضة.

ثانيا: واقع التكنولوجيا الرقمية في العالم العربي:
يؤسفني أن نقول: إن الفجوة الرقمية في البحث العلمي بينا وبين العالم الغربي كبيرة جدا، فالزائر العربي للمدارس والجامعات الغربية يقف منبهرا مشدوها بهذا التطور الهائل والاهتمام البالغ في مجال البحث العلمي والرقي به، فحين تدخل مراكز البحث العلمي في الجامعات تجدها وكأنها خلية نحل: حركة دائبة، وتنظيم محكم، وتعاون مستمر، واستثمار لأي جهد، وتقدير لأي طاقة.
فإذا ما قارنا هذا بواقع البحث العلمي في بلاد المسلمين، أُصبنا بخيبة أمل شديدة، فمراكزه أندر من الكبريت الأحمر، وواقعها يضحك الثكلى: خمول ضارب بأطنابه عليها، وموت يدب إلى أجهزتها الساكنة، وباحثوها أعمالهم ثانوية فيها، فمعظمهم يأتي للمركز في الساعات المتأخرة من اليوم بعد أن أُنهك في عمله الأصلي، أما واقعها الرقمي فليس بأحسن حالا مما ذكر، فكثيرا ما تجد الأجهزة الحاسوبية معطلة، أو منهكة بألوان الفيروسات التي لم تحم منها ببرامجها المحاربة لها، وأحيانا تستورد بعض الأجهزة المتطورة، فإذا حصل فيها أي خلل تصبح ركاما من حديد في زاوية، لا تجد من يصلحها بله أن يطورها، وهكذا دواليك إلى أن تسأل في حسرة شديدة: هل توجد استراتيجية واضحة المعالم لاسثتمار التكنولوجيا الرقمية في مجال البحث العلمي في بلادنا؟

ثالثا : خطوات لتجاوز الوضعية :
ولتجاوز هذه المرحلة لابد من اتخاذ خطوات مهمة تتمثل فيما يلي:
-1 تبني مفهوم إدارة المعرفة الرقمية عند القائمين على هذا الأمر.
2 – ضرورة وجود الوعي الكامل بالاتجاهات الرقمية الحديثة ومدى أهميتها، في مختلف التخصصات.
3 – إقامة مراكز بحثية متخصصة رسمية أو حرة يشرف عليها خبراء متخصصون يقومون بدراسة واقع التكنولوجيا في البحث العلمي وسبل تطوير البحث العلمي بها.
4 – وضع استراتيجية واضحة المعالم بذلك والتي تعني: تعبئة وتوجيه الموارد والطاقات البشرية والمادية لتحقيق شامل وأوسع وأفضل وأمثل للأهداف المسطرة والموضوعة من قبل المشرفين على وضع تلك الاستراتيجية.
5 – وجوب تنفيذ تلك الاستراتيجية ورؤية تصورها على أرض الواقع بصورة تجعل البحث العلمي محضرا كل التحضير لمسايرة التطور التكنولوجي، والاستعداد للمراحل الجديدة، والإسهام في نموه ولو بأحرف يسيرة فيه.
6 – ضرورة ترجمة البحوث المتطورة في هذا الباب إلى اللغة العربية وتعريب مصطلحاتها، فالأمة لن تنهض إلا بلسانها الذي اختاره الله تعالى لها، وهو أسرع طريق للتقدم في مجال البحث العلمي وتطويره، ولن تدخل الأمة حلبة التحدي الحضاري، لتأخذ موقع الشهود الحضاري إلا بعد الحسم في قضية التعريب، وإرضاع أبناء الأمة من حليب أمهم العربية الأصيلة.
هذه بعض الرؤى والمقترحات، وما زال حبل الحديث طويلا؛ فلذا أدعو أبناء الأمة المخلصين أن يولوا وجوههم نحو هذه الأمر ويسهموا بجد وإخلاص في إعادة بناء صرح هذه الأمة المجيد، دون يأس أو عجلة، فالفتح آت ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا. والحمد لله رب العالمين.
د. مصطفى الزكاف
————-
انظر كتاب : التكنولوجيا الرقمية، ثورة في نظم الحاسبات والاتصلات تأليف : نيكولاس نيجروبونت ترجمة : سمر شاهين، مركز الأهرام للترجمة والنشر ص : 211 وبعدها.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>