إذا كان من متطلبات الإصلاح الاستفادة من تجارب الآخرين الإيجابية، وتطبيق ما يناسب منها البلاد والعباد، فإن من أساسياته الاستفادة من التاريخ قريبه وبعيده، لأنه هو الأكثر ارتباطا بالبيئة لغة وثقافة ومناهج وعادات وتقاليد وغير ذلك. والناظر إلى ما حققه التعليم في بلادنا، على الأقل خلال العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال، يجد أنه قد أدى دورا متميزا في المدن والقرى على حد سواء، رغم ما كانت تنتاب سياسته من تجاذب بين الدافع الوطني التأصيلي والتيار التغريبي الاستئصالي، ورغم بساطة المناهج وضعف طرق التدريس وندرة الكتاب المدرسي وأُحاديته. فما السر في ذلك؟ من القواعد البلاغية عند الأسلاف، المُنَظِّرة المُؤسِّسة لكل تواصل ناجح، قولهم: “إذا لم يكنِ المستمعُ أحرصَ على الاستماع من القائل على القوْل، لم يبلغ القائل في منطقِه، وكان النُّقْصان الداخل عليه بقدر الخَلَّة بالاستماع منه”. لقد كان مضمون هذا القول شعار أسلافنا في العملية التعليمية التربوية جملة وتفصيلا، وبذلك كان أيضا مبدأً عند معلمينا وأساتذتنا، وعند تلامذتهم وطلابهم خلال العقود الأولى بعد الاستقلال. لقد كان المعلم في المراحل الابتدائية، والأستاذ في المراحل الإعدادية والثانوية، بل وحتى “الفقيه” في الكُتاب أو “المسيد” يؤمنون إيمانا قاطعا بأنهم يؤدون رسالة سامية، تبرئة لذمتهم أمام الله أولاً، حتى “يأكلوا الخبز الحلال”، وإخلاصاً لما يتطلبه الواجب الوطني من تضحية وتفان ونكران للذات، ثم أداءً لواجبهم تجاه فلذات الأكباد البريئة المريدة. تلك الرسالة السامية التي كانت تدفعهم دفعا إلى مجابهة الصعاب كيفما كانت دون كلل أو ملل، فلم يكن يثنيهم ضعف الراتب، ولا بعد المسافة عن المؤسسات التعليمية، عن أداء ذلك الواجب السامي. أذكر أن بعض المعلمين الذين درَّسوني في المرحلة الابتدائية في أواخر الستينات من القرن الميلادي الماضي كان تفصلهم عن المدرسة أزيد من ثلاثين كلم، خمسة وعشرون منها مُعبَّدة، وسبعة أخرى أو أزيد عبارة عن شعاب وأودية وأوحال وأشواك، هذا إن اختصر الطريق، ومع ذلك لم أذكر ولو يوما واحدا أنهم تغيبوا أو تأخروا، أو غادروا قبل الوقت بسبب برد أو حر، أو بسبب طين أو “غيس”، كانوا يحضرون في الثامنة صباحا، ولا يذهبون إلا بعد الخامسة والنصف مساءً، وعند الاضطرار كانوا يبيتون في بيت مهجور، ولكن مع ذلك كانوا يؤدون ثمن الإيجار لصاحبه، حتى لا يفتات الكلام عليهم أحد، أو يَمُنّ عليهم مُدَّع. أمَّا أن يفكروا في الاحتجاج آو الإضراب أو المقاطعة أو المطالبة بالتعويض عن الأتعاب الزائدة، أو الغياب بسبب البرد أو الحر، أو لعدم وجود أي شيء يسمى الإدارة، فلم يكن يدور بخلدهم على الإطلاق. أذكر أنه كانت تأتي أحايين في فصل الشتاء، لا يصلون إلى المدرسة إلا وهم “كالدجاج المبلل” من شدة أمطار الغوادي، نعم كانوا يرتدون الملابس الواقية من المطر (imperméables) والأحذية الشتوية الطويلة (bottes)، لكن كل ذلك لم يكن يغني من تسرب الماء من فوق أو من تحت أو من جانب. ومع كل ذلك لم يكن ليمنعهم من أداء الواجب كما هو مطلوب، بل فوق ما هو مطلوب، شرحا وتبسيطا وتوضيحا، وكأن تفانيهم في التدريس داخل الأقسام كان ينسيهم كل الأتعاب والأهوال التي كانوا يقاسونها. كانوا يتميزون بالعفة، حتى إنه حينما كان يقدم لهم السكان بعض الطبيخ، كان من شيمهم أن يردوا الآنية وهي ملآى بشيء، وخاصة الحلوى. قد يقال إنك تريد أن تعود بنا إلى زمن البكاء على الأطلال، إلى زمن كان فيه المعلم مُغَفَّلا، تُهضم حقوقه ولا يستطيع أن يتكلم لشدة القمع. أما الآن فنحن في عصر الحريات وفي عصر الحصول على الحقوق فكيف تمنع شخصا من ارتياد آفاق الحرية؟ نعم إن للحرية آفاقا، ولكنْ لها حدود أيضا، وخاصة حينما تصطدم بحقوق الآخرين. ولعل رواد الحريات الفردية والجماعية في العالم، أو أبناءهم على الأقل، الذين يُقتدى بهم في هذا الباب، يمكن أن يكون لهم رأي أو موقف في هذا الموضوع!. ذلك ما سنراه لاحقا إن شاء الله.
د. عبد الرحيم الرحموني