ملهمتي لذكره : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}


كل السلبية بداخلي انتفضت وانتصبت قائمة، رجَّتني، واستوقفتني، وتنصلت لهويتها. نادت بصوت أودعته كل ما فيها من الشجن، وصرخت بحنجرة بُحت من تجرع الألم ومرارة البكاء، استفيقي هيا انهضي هبي من سبات. لم أجد بدا من محاورتها، فصراخها الذي تجشمت فيه مرارة الحزن بعث كوامني الدفينة، فانذعرت من غفلتها وبث في أوصالي نور اليقظة. فقلت: لماذا ألجمتني كل هذا الزمن؟ لماذا نخرت قواي؟ لماذا عطلت حيويتي؟ كيف سكنت معك همتي؟ هلا خرجت من قوقعتك الحزينة المظلمة وأجبتني؟ أجيبي مهما كان جوابك، وإن أدمى قلبي المثلوم، وإن ذرف له دمعي الحزين، وإن قطع أوصالي بما يحويه من وعيد، وإن أماتني ميتة شرف تحييني من جديد. قالت ورأسها مطأطأ من الخجل: وجدت فيك طيبوبة الأكارم فأبدلت ثوبي القاتم لأجلك، فمثلك عز مثيله، ونذر وجوده. بعدما حنت لحالي وبكت، حرك جوابها صوتي بأنين ممزوج بالألم: الآن وبعدما وسمتني بقبيح صفاتك، وأضللتني عن مسار السائرين، وشل إحساسي برثائك الحزين، فتقرحت أجفاني من حرارة الدموع. أتبكين لحالك أم لحالي؟ !!! أهي دموع اعتراف تغفر الاقتراف؟ أتستنهضين الهمة التي قتلها التراخي؟ أم تخاطبين النفس التي عشش في ثناياها الألم؟ كيف السبيل إلى التفاؤل؟ إلى استنشاق عبق زهر الحياة؟ إلى رؤية جمالها بعين رضية عن كل السواد كليلة، إلى العيش في جنتها الموعودة، التي من لم يرفل في نعيمها لن يدخل جنة الآخرة. أجابت بلهجة يساورها الأمل وبدموع الصدق تنهمر: جنة الذكر ألا بذكر الله تطمئن القلوب. ألا بذكر الله تطمئن القلوب. سلبيتي أنطقها الرحمن، نطقت بمحكم القرآن. كيف لا وكلامه يخشع له الجبل ويتصدع، كيف لا وكلامه أوجد الوجود من العدم؟ سلبيتي استوحشت من ذاتها، وعلت بها همة صادقة، فلاح لها بذكر الله نور العزائم، فهب نسيمه على قلبي ليروح عنه وهج الدنيا ويثمر الأنس الدائم. ابتهجت أساريري فصدع لساني يسمعني: ما أيقظني إلا لأنه يحبني؟ يا ترى هل ربي يحبني؟ لو لم يكن يحبني ما بعث لي رسولا يهز كياني لأفر إليه؟ لو لم تسبق لي منه العناية لما ألهمني ذكره ليذكرني. لما حرك خواطري لتوقظ قلبا من غيبوبة الشجن، لما استدعاني للاعتراف بما اقترفته النفس في ما مضى من الزمن. لو لم يكن يحبني لما محصني باختبارات المحن، لما أوقفني ببابه ليسمع صوتي في أحلك الليالي، أهمس في أذن أرضه فيصعد دعائي ليعلو الأفق فيستجيب ويكشف السوء. لو لم يكن يحبني لما أبهج حياتي بإشراقة ذكره، لما جعل قلبي يتلهف لنوره ويذوق لذيذ أنسه، لما ضرب فيه سرادقات المحبة، بعدما انزعج لروعة الانتباه من رقدة الغافلين. لو لم يكن يحبني لما طهرني من غبار الغفلات، لما نقى سري من كدورات الغوايات، لما نبهني لأدناس الشهوات. لو لم يكن يحبني لما تعهدتني أيادي الألطاف الخفية بالعناية، لما سكنت أوصالي بأنس المعية، لما اصطفاني للوقوف ببابه، وللركون إلى جنابه. آه من لذة حب الله لو تغذى بها القلب لذهبت عنه بطنة الشهوات، ولو تملكته لرتع في جنة الدنيا، التي فيها من ذخائر الخير مالا تدركه الأبصار، إنما ينشرح له القلب ويطمئن. لو تملكته لقطع مفاوز الآخرة على بساط الامتنان مرفرفا بأجنحة الشوق إلى الملك الديان. ف”القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب، وإذا وضعته عند العقبى ذاب، وإذا وضعته عند المولى طاب”. لمّا أشرقت خواطري بذكر ربها بعدما أدركها بالفضل والرحمة، هبت للاحتفاء بلذة الانتصار، فشمعة النصر إنما تضيء من لهب الانكسار. لقد أسفر صبحي الجديد بنوره الساطع، فوضعت قلبي عند ربي ليطيب. أستأنس بلذيذ الذكر في ألفاظه، أسبحه بما يحبه: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. سكت لساني لحظة – فأبى قلبي- أصغي للكون من حولي يسبح، فتضج الخلائق بالتسبيح بحمده وما أغفل الخلق عن سماعها. تتدلى أوراق الأشجار تحركها نسائم الصباح لتسمعني تسبيحها، وتتسلل زقزقة العصافير إلى أذني فيهتز قلبي لتسبيحها، وترنيمة السواقي في الحقول تشي بتسبيحه كلما أسرع جريانها وصبيبها، حتى حجارة الأرض انتصبت في شموخها فجثوت على ركبتي لأتحسس صوت تسبيحها. كل الكون يسبح وينزه المولى عما لا يليق بجلاله، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. عدت إلى نفسي أحدثها: كل الخلق يسبح الرحمن، وأنت أيها الإنسان لا تدرك قيمة ما يحب مولاك، استرجعت ذاكرتي في هذه اللحظة مشاهد حدث لم أفهمه في وقته، فقد أسمعني في أيام الحج رجل مسن ألفاظ تسبيح لله عز وجل بصوت جهوري شجي وكأنه يوجه لي الخطاب لأنتبه لقوله: سبحان الله الأبدي الآبد، سبحان الله الواحد الأحد، سبحان الله الفرد الصمد، سبحان الله رافع السماء بلا عمد، سبحان الذي بسط الأرض فأرساها بالوتد، سبحان الذي خلق الخلق فأحصاهم عددا، سبحان الذي قسم الرزق ولم ينس أحدا، سبحان الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، سبحان الذي لم يلد لم يولد ولم يكن له كفؤا احد”. كلما تذكرتها أشعلت لهيب شوقي واشتياقي لدفء وقعها على قلبي فما أفتأ أرددها في سري لتسري في أوصالي بنورها فتهيج خواطري بالتسبيح والتسبيح. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. علمت بعد حين أن ربي حال بيني وبين رقاد الغفلة، وأطلق لساني بوصف مننه، فكم من الرسائل تردنا ولا نفهم لها معنى، تسري في أعماق سرائرنا تروم تحريك الخواطر فتجدها أرضية سفلت إلى القاع فاحتضنها الخمول، وجاورت رفات الموتى، فأبدلت نور الحكمة بموت الجهل. فالحمد لله رب العالمين، موقظ الغافلين، ملهم عباده خواطر الإنابة التي إن هاجت يتحرك لها الوجود ويستسلم.

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>