30- {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا}


314 30- {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا}

جزاء الإيمان والعمل الصالح

يقول تعالى : {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا}.

تقرر الآية شرطا وجزاء لمن يؤمن بكتاب الله ويعمل بما دعا إليه وأمر به، وهذا الجزاء أعظم وأكبر من كل جزاء، إنه جزاءان :

الأول دنيوي يمكن الله فيه عبده المؤمن من نوال الأرزاق الحسنة والطيبة، أما الجزاء الثاني فهو أخروي وهو الفوز بجنات الرضوان والخلود فيها.

ولكن هذا كله معلق ومشروط بأن يصدر من العبد فعل محدد له وجهان: يتعلق الأول بالإيمان بالله وبكل متعلقاته، ويتعلق الثاني بالقيام بالعمل الصالح . ومن دون ذلك لا يتحقق الجزاء.

ملازمة العمل الصالح للإيمان

وهذه قاعدة عامة وكبرى ومطردة في القرآن الكريم قاعدة اقتران الإيمان بالعمل الصالح وتلازمهما، فقد بين كثير من علماء الأمة أن مفهوم الإيمان في حد ذاته يتضمن العمل ويقتضيه، لأن الإيمان في اللغة وإن كان يفيد مجرد تصديق وعدم تكذيب كقوله تعالى : {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين فآمن له لوط}(يوسف:17) لكن هذه الدلالة اللغوية غير لازمة من الناحية الشرعية والاصطلاحية لأنه تقرر عند العلماء أن بين الدلالتين تميزاً وخصوصية في كثير من الأحيان، لذا فالإيمان في الشرع ليس هو مجرد التصديق كما هو في اللغة بل إنه أكثر من المعرفة والتصديق إنه تصديق لابد أن يصاحبه إذعانٌ وخضوع لأن من عرف أن اليوم الآخر آتٍ وصدَّق به فيلزم من ذلك أن يعمل له ويستعد له بفعل الخير والطاعات وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، لأنه لو كان العلم والمعرفة والتصديق هما المطلوبيْن في الإيمان لكان كل الكفار مؤمنين، فأبو جهل كان يعرف أن محمدا  رسولٌ ونبيٌّ وصاحب رسالة من ربه للناس قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}(البقرة: 146، والأنعام:20)  ولكنه لما لم يذعن لله ولرسوله ولشرعه ولم يمتثل أمر الله في اتباع نبيه عدَّه الشارع الحكيم جاهلا ولم يسمِّه مؤمنا لسبب رئيس هو أن هذه المعرفة لم تُصْحَب بالخضوع والإذعان، إذن فالإيمان في الشرع معرفة مصحوبة بالإذعان إجماعا ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء المعتبرين.

الإيمان بدون عمل وتطبيق يؤدي إلى التحلل من شريعة الله :

لكن لماذا التوكيد على ضرورة اقتران الإيمان بالعمل، والعلم بالتطبيق، والمعرفة بالخضوع ؟

لأن الاقتصار على العلم والمعرفة دون العمل يؤدي إلى التحلل من شريعة الله، ولا يميَّزُ المؤمن من غير المؤمن، ولا يؤدي إلى مقصود الشرع الكريم في إخراج الناس من داعية أهوائهم إلى عبادة الله عز وجل، ولا يتحقق هذا المقصود بمجرد ادِّعاء الإيمان مجردا عن العمل الصالح.

الفصل بـيـن الإيـمـان وتطبيق الشـريعة أكبر البـلايا التي أصيب بها الـمسلمـون قديما وحديثا

وقد كان هذا الفصل بينهما إحدى البلايا والرزايا التي بليت بها الأمة المسلمة في تاريخها لما ظهر فيها الإرجاءُ والقول بأن الإيمان يكفي فيه القول.

ولأن المسلمين اليوم ابتعدوا كثيرا عن الفهم الصحيح للدين وكثر فيهم الجهل، وتطاول المغرضون والملبِّسون وأصبح كل من ينادي من المسلمين المخلصين بتطبيق الشريعة وتحكيمها يواجه بهذه القولة : <”نحن مسلمون من قبل أن تقولها، والإيمان في القلب” وأصبح المسلمون يعتقدون أنهم مؤمنون ولو بالقول واللسان، وإن لم يكن منهم عمل صالح، وإن لم يكن منهم إذعان وتطبيق لشرع الله، وأصبحوا يكتفون بالدلالة اللغوية للإيمان، لذلك أصبحنا نرى صورا كثيرة في الفصل بين الإيمان والعمل تتجلى في أن كثيرا ممّن يصرحون بالإيمان بالله، ولكن دون أن ترى منهم الحرص على طاعته وعبادته في كل ما شرع، وكذا تجد كثيرا منهم يقول إنه يؤمن باليوم الآخر دون أن تراه مشفقا على نفسه من عذاب هذا اليوم ولا مستعدا له بالصالحات من الأحوال والأقوال والأعمال، كما تجد كثيرا من الناس يصدقون ببعثة الرسول وتجدهم في نفس الوقت يخالفونه ويخالفون سنته، ولا يبذلون أدنى جهد لتعلمها وتطبيقها والإذعان لها والذب عنها في وجه الطاعنين والحاقدين.

الفصل بين الإيمان وتطبيق الشريعة هو العلمانية التي ابتدعها الإرجائيون قديما

ويستفاد مما سبق أن حال المسلمين اليوم حال بعيد عن الفهم الصحيح لمفهوم الإيمان ولما كان عليه علماء الأمة الذين أطبقوا على أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وهو قول المحدثين والمعتزلة والخوارج وقد تشدد فيه الخوارج كثيرا وكفّروا من يترك واحدا من الأعمال، وقالت المعتزلة بأن من يؤمن ولا يعمل هو في منزلة بين المنزلتين. وعلى كل حال فالإيمان يستلزم العمل ويستدعي التطبيق ويتلازم مع التخلق. ولذلك فلا حجة للعلمانيين في الفصل بين الإيمان والشريعة!

الفرق بين الإيمان والإسلام

تحدث المسلمون كثيرا عن الفرق بين الإسلام والإيمان وبسبب التداخل بين المفهومين وقع الالتباس ودخلت الشبهة على المسلمين حتى أصبح لديهم الاعتقاد بأن الإيمان مجرد معرفة وتصديق وقول قد لا يستلزم العمل والطاعة بالضرورة، لذا وجب التفريق بينهما بالقول : إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من تلفظ بالشهادتين وأداء للصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر العبادات والأعمال الظاهرة.

وقد بحث علماء العقيدة قضية الإيمان والإسلام بحثا طويلا وهل هما شيء واحد أم هما شيئان مختلفان، والذي يعنينا في هذا المقام أن الله عز وجل في هذه الآية التي نحن بصددها أشار إلى الإيمان ولم يكتف به كشرط واحد بل أكد وجوب اقتران ذلك بالعمل الصالح {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا} مما يعني أن الذي آمن وأسلم هو الذي سينال الجزاء الموعود في الآية وبمعنى آخر فإن الذي سيفوز بذلك هو من أتى بجميع شرائع الإسلام والتزم بها مما يدل أن بين الإسلام والإيمان نوعاً من التفاوت والتباين خصوصا إذا وردا في مجال واحد وفي قضية واحدة فالإيمان سيكون حينئذ غير الإسلام، فالإيمان ـ كما قال بعض العلماء ـ سيتخذ هنا معنى مجرد قبول الحق والتصديق به وعدم معارضته، وأن يكون قلبُ المؤمن مطمئنا إلى جميع الحقائق الدينية وغيرَ متشكك فيها، أما الإسلام فسيكون معناه هو الولاءَ للحق الذي علم وصَّدق به  ومعناه أيضا : الالتزام به والتمسك به والقيام بجميع شرائع الإسلام . واجتماع هذين الأمرين هما الكفيلان بإنجاء العبد المؤمن عند ربه.

وحين يرد لفظ الإيمان منفصلا عن لفظ الإسلام فإن دلالةَ أحدهما تنُوب عن الأخرى. غير أن الذي يقع لكثير من الناس هو توهُّم أن أحد الأمرين يكفي ويغني عن الآخر . وهذا ليس من الهدى في شيء، وقد انحدر هذا التمييز بين الإيمان والإسلام والاكتفاء بالقول والمعرفة منذ ظهر الإرجاءُ ومذهبُ المرجئة فشاع وعَمَّ حتى وصلنا إلى هذه الحال الذي أصبح فيه المسلمون مسلمين بالشعار دون المضمون، وأصبحوا لا يميزون بين كافر ومسلم، ولا بين علماني ومسلم، ولا بين شيوعي ومسلم، بل إن كل هؤلاء يدخلون تحت مسمى الإسلام !!

لأن مذهب الإرجاء يقوم على فكرة خطيرة كانت وراء هذا الفصام النكد وهي فكرة “إن الإيمان لا تضرُّ معه معصيةٌ كما لا تنفَعُ مع الكفر طاعة” بمعنى إن كنت مؤمنا لا يضرُّك أن ترتكب المعاصي كبائر وصغائر، من زِنا وشُرْب خمر وسِحْر وشعوذة وقتْل للنفس وكذب ووزر وخيانة… لأنك مؤمن ومعك إيمان، كما أنك لو كنت كافرا فإنه لا تنفعك الطاعات وأعمال البر ولو صلى وحج وصام لأنه ليس مؤمنا ابتداء. وبهذا استطاع مذهب الإرجاء أن يؤسس للفصل بين الإيمان والعمل واستطاع التأثير في فكر الأمة وعقيدتها وأصبح من المذاهب الهدامة الخطيرة وهو المذهب الذي يمثل الإسلام في نظر العلمانيين والإباحيين والشيوعيين ويدافعون عنه ويرفضون به الإسلام الحقيقي الذي يتلازم في القول بالعمل والتصديق بالتنفيذ، وهذا يتلاقى مع المسيحيين في الإيمان بالمخلص وحده ولو أجْرم الإنسان ما أجرم.

ومذهب الإرجاء هو الذي سهل دخول هذه المذاهب الغربية وعمل على تقبُّلها فتجد الرجل مسلما وينتمي لحزب اشتراكي وشيوعي يصلي في المسجد ويترشح مع حزب شيوعي أو علماني دون أن يتفطن بأن في ذلك تناقضا صارخا وجمعا بين ما لا يقبل الاجتماع.لأن الدين في المنظومة الشيوعية >أفيون الشعوب< وهو خدعة أبدعتها الطبقة المهيمنة لتخدير الطبقة الفقيرة ووعدتهم بالجنة حتى تسكتهم وتنسيهم عذاباتهم وحقوقهم، وحتى يتسنى لهذه الطبقة الغالبة أن تسوس وتسود وتحكم !! فكيف إذن لمن يحمل مثل هذه الأفكار أن يكون مسلما ومؤمنا؟! إذن فمن كان شيوعيا فلا يمكن أن يكون لا مسلما ولا مسيحيا ولا يهوديا ولا بوذيا…

ولهذا السبب وجدنا من المسلمين اليوم من يعترض على تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أوامرها والمعاقبة على ارتكاب نواهيها، ولهذا وجدنا من المسلمين من يدعو إلى التحرر والتحلل من أحكام الشريعة العملية في الاقتصاد والأسرة والحجاب والميراث والزواج والطلاق ويعتبر ذلك مخالفا لمبادئ الديمقراطية ومخالفا لحق الأفراد في الحرية!!

والصواب أن يقال إن هذا فيه تطاول على حق الله واعتداء على حق الأمة المسلمة وعلى مقدساتها وفيه تدخل في حرية المسلمين وتزوير الحقائق عليهم وتلبيس الحق بالباطل.

ويستفاد مما سبق أن المطلوب من المسلم أن يجمع بين الإيمان والإسلام وبين القول والعمل الصالح لأنه لا وجود لمسلم يؤمن بلسانه ويعصى الله بعمله ويفسد في الأرض بين الناس بسلوكاته وأفعاله، فللإيمان شروط وضوابط كما هي للإسلام، والمسلم الناجح والناجي هو الجامع بينهما وليس العمل الصالح في الإسلام إلا الالتزام بأحكام الإسلام وشرائعه وتطبيقها، ولو علم المسلمون هذه الحقيقة وعملوا بها لقلَّتْ كثيرٌ من الانحرافات والمفاسد الأخلاقية.

والمطلوب من الأمة اليوم أن تعود إلى صفاء عقيدتها وأن تعيد إلى التعليم ما ضاع منه من علوم التوحيد والأصول والتفسير والفقه التي تساعد على تصحيح الفهم والتصور وتقويم السلوك، وتنقية التعليم والإعلام وما يوازيهما من كل ما لا يتوافق مع الهدى الرباني.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>