اليد العليا خير من اليد السفلى


314 اليد العليا خير من اليد السفلى

عن حكيم بن حزام ] قال: سألت رسول الله  فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: >يا حكيمُ، إن هذا المال خَضِرٌ حُلـْوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورِكَ له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبَارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليد العليا خير من اليد السفلى<.

قال حكيم : فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَأ أحدًا بعدك شيئا حتى أفارق الحياة.

فكان أبو بكر ] يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر بن الخطاب ] دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل، فقال: يا معشر المسلمين، أشْهدكم على حكيم، إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.

فلم يَرْزَأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي  حتى توفي<. (رواه البخاري ومسلم)

تــقــديــــم:

إذا كان الإنفاق في سبيل الله والبذل والعطاء والجود خُلقَ المسلمين وميزة المتقين، فإن الشرع الحنيف قد جعل استمرار هذه الأعمال والصفات رهينا بمجموعة من الأخلاق والصفات التي ينبغي أن تتوفر في السائلين من الفقراء والمساكين والضعفاء والمحتاجين،  كالعفة والقناعة وعدم تكرار السؤال والإلحاح في الطلب، وهذا ما نبه إليه رسول الله  فيما رواه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام ] قال: سألت رسول الله  فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: >يا حكيمُ، إن هذا المال خَضِرٌ حُلـْوٌ، فمن أخذه بسخاوةِ نفسٍ بُورِكَ له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبَارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع. واليد العليا خير من اليد السفلى<.

شــرح ألـفـاظ الـحــديـث:

- خضر حلو : ناعم جميل لذيد.

- سخاوة : الجود وعدم منازعة النفس لصاحبها في الشيء.

- بورك له : نال به السعادة وحظي فيه بالزيادة والنماء والبركة.

- إشراف نفس : تطلع ولهفة وشوق وشراهه.

- اليد العليا : اليد المتعففة.

- اليد السفلى : اليد المبسوطة للطلب والسؤال والاستجداء.

المعنى الإجـمـالي للحـديث:

من كان ذا نفس أبية وهمة عالية لا يبسط كفه إلى أحد من الناس.

الـمعـاني الـجـزئية للحـديث:

1- إن حكيما بن حزام قد سأل رسول الله  للمرة الأولى فأعطاه ولم يرده، ثم سأله للمرة الثانية فزاده ولم يخيب أمله، ثم سأله للمرة الثالثة فزاده ولم يمسك عليه.

2- لقد كان حكيم حديث العهد بالإسلام، وقد أعطاه  ثم أعاده ليتألف قلبه، ويمتلك عقله، ويجلب لـُبّه، وليكون ذلك سببا في هدايته، ولو منعه العطاء لوجد في نفسه شيئا.

3- إن رسول الله  الذي عَلِمْنا عنه أنه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة قد أعطى السائل ودفع له ما طلب ليعلمه أن المؤمن لا ينبغي أن يرد سائلا، عملا بقول الله عز وجل: {وأما السائل فلا تنهر}(الضحى:10)، ثم استغل الفرصة ليبين له- بأدبه المفرد وتعليمه السامي وأسلوبه الحكيم- أن المال ذميم لا ينبغي التفاني في حبه، وأن إشراف النفس إليه والطمع في جمعه بشوق ولهفة خِسَّة ودناءة، وأما العفة والقناعة والزهد فيما عند الناس فعزة وكرامة.

4- لقد صور النبي  اليد الآخذة بالسفلى ووصف اليد المتعففة أو المعطية باليد العليا وجعل اليد العليا خيرا من اليد السفلى، وعلمنا أن ندرب أنفسنا على الاستعفاف والاستغناء عن الغير فيغنينا الله، عن أبي سعيد الخدري ] أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله  فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: >ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يُعفَّه الله، ومن يستغن يُغنِه الله، ومن يصبر يُصبِّره الله، وما أعطِيَ أحدٌ من عطاء خيرٌ وأوسع من الصبر<(مسلم)

5- إن حكيما بفطنته وذكائه وإبائه قد استوعب كلام رسول الله ، فأصبح قانعا بعد الطمع وزاهدا في الدنيا بعد التفاني في حبها، وأخذ على نفسه عهدا ووعدا ألا يسأل أحدا بعد رسول الله  حتى يفارق الحياة، فبقي وفيا للوعد محافظا على العهد حتى توفي ].

مستفادات وفوائد:

1- إن الإسلام يغرس في نفوس أتباعه كراهة السؤال تربية لهم على علوِّ الهمة وعزة النفس والترفع عن الدنايا، روي عن رسول الله  أنه قال:>من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم< قالوا يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: >ما يغذيه أو يعشيه<(أحمد وابن حبان)، وعن ثوبان مولى رسول الله  قال: (قال رسول الله : >من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له بالجنة؟< فقال ثوبان: أنا يا رسول الله، فقال: >لا تسأل الناس شيئا<، فكان لا يسأل أحدا شيئا)(أبو داود).

2- ونهى الرسول  المسلمين أن يعرضوا أنفسهم للهوان والمذلة بالسؤال إلا لحاجة تقهرهم، فإن سألوا وعندهم ما يغنيهم كانت مسألتهم علامات وجروحا في وجوههم يوم القيامة، قال رسول الله : >من سأل الناس أموالهم تَكَثُّراً فإنما يسأل جمرا فليستقلَّ منه أو لِيستكثر<(مسلم)، وقال رسول الله : >ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة أو اللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفْطَن به فيُتصدّقَ عليه، ولا يقوم فيسأل الناس<(البخاري)، كما قال : >ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ ولكن الغنى غنى النفس<.

3-وعلّم الرسول  أن العمل هو أساس الكسب وأن المسلم عليه أن يمشي في مناكب الأرض ويبتغي من فضل الله، وأن العمل أفضلُ من تَكَفُّفِ وإراقة ماء الوجه بالسؤال، قال رسول الله : >لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها فيكُفّ الله بها وجهه خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه<.

4- ومن الدروس التطبيقية التي نستمدها من هدي النبي  ما روي عن أنس بن مالك ] أن رجلا من الأنصار أتى النبي   يسأله، فقال : >أما في بيتك شيء؟< قال: “بلى، حِلس(كساء) نلبس بعضه ونبسط بعضه وقِعْبٌ(إناء) نشرب فيه الماء”، قال: “ائتني بهما” فأتاه بهما فأخذهما رسول الله  وقال: “من يشتري هذين؟” قال رجل: “أنا آخذهما بدرهم” قال: “من يزيد عن درهم؟” قال رجل:”أنا آخذهما بدرهمين” فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: >اشترِ بأحدهما طعاما وانبذه إلى أهلك واشترِ بالآخر قدوما فائتني به؟… فشد رسول الله  عودا بيده ثم قال له: >اذهب واحتطب وبِعْ ولا أَرَيَنَّك خمسة عشر يوما<،.. فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله : >هذا خير لك من أن تجيء المسألة نَكْتَةً في وجهك يوم القيامة<(أبو داود وابن ماجة).

5- لقد مدح الله تعالى طائفة من الفقراء، وأثنى عليهم لأنهم استغنوا بعفة النفس فزهدوا فيما عند الناس، وترفعوا بكرامة النفس عن سؤال غيرهم، واعتمدوا على سواعدهم في تحصيل ما يملأ بطونهم وما يستر أبدانهم مكتفين في ذلك بعز القناعة وجمال العفة وحلاوة الرضا وقوة الإيمان، وهم بهذا أسعد من كثير من الأغنياء الذين يعيشون لأطماعهم ويشقون في أموالهم. قال تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياءَ من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً}.

6- إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في وقتنا الحاضر- وقد كثر الفقراء بسبب انتشار البطالة وانعدام فرص الشغل وارتفاع المعيشة وكثرة المصاريف والمتطلبات وعجز المجتمعات عن القضاء على الفقر- هل فقراء هذا العصر من ذلك النوع المحترم والصنف النبيل الذي مدحه الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز؟

7- إن معظم فقرائنا-إلا من رحم ربي- يريدون أن يعيشوا بدون تعب ولا شقاء، وأن يسعدوا بدون كدّ ولا عناء، يريدون أن يصبحوا أغنياء بلا سعي ولا عمل.  لقد أصبح فقراؤنا- اليوم- يكرهون السعي والعمل، ويحبون البطالة والكسل، ويعشقون النوم والخمول، ويجدون راحتهم في أن يمدوا أيديهم للناس في ذل وهوان يطلبون العون ويسألون المساعدة، حتى أضحت ظاهرة التسول من أكثر الظواهر انتشارا في المجتمع، ومن أخطر الظواهر التي تشل حركته وتهدد سلامته، خاصة عندما كثر عدد المتسولين وتنوعت أصنافهم وتعددت أحوالهم، ولا يستطيع المرء أن يميز فيهم بين القوي والضعيف، والعاجز والمقتدر، والمريض والسليم، والمتعلم والجاهل، والأمي والمثقف، ولا فرق فيهم بين الكبير والصغير، والمرأة والرجل ؛ وقد ابتكر هؤلاء كثيرا من الأساليب العجيبة والحيل الغريبة لِلَفت أنظار الناس إليهم واستجلاب عطفهم، فمنهم من يدعي العمى والعرج، ومنهم من يدعي الشيب والمرض، ومنهم من يدعي أنه كان موظفا وطرد من العمل، ومنهم من يدعي أنه غريب انقطعت به الطريق، مستخدمين في ذلك كل أساليب التوسل والتلطف. ومــن الغريب أن يكـون السائل أغنى من المسؤول وأكثر منه قوة.

8- قد يلجأ بعض المتسولين إلى أساليب التهديد والوعيد والاستهزاء والاستخفاف واللعن والشتم والسباب، وكأنهم يريدون أن يسترجعوا مالا مفقودا أو حقا مسلوبا، فلا يعطيهم الناس إلا قطعا  لألسنتهم وحماية لأنفسهم ودفعا لشرهم وتجنبا لخبثهم، وأولئك شر الخلق عند الله ، قال رسول الله : >أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل يحسن إليه الناس اتقاء شره<.

9- اللهم إنا نسألك نفسا تقنع بعطائك وترضى بقضائك وتخشاك حق خشيتك، و أغننا اللهم بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>