فكرة إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين من العصور الوسطى وحتى هرتزل (2)


314 فكرة إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين من العصور الوسطى وحتى هرتزل (2)

بداية الجهود السياسية للعودة

اقترن التفكير بتوطين اليهود في فلسطين بتاريخ الأطماع الأوروبية فيها منذ منتصف القرن السابع عشر، حيث الصراع حول السيطرة على التجارة العالمية والتحكم في طرق مواصلاتها، وكان البيوريتانيون “المتطهرون” آنذاك لا يشكلون الطبقة الحاكمة في إنجلترا والأراضي المنخفضة فحسب، وإنما كانوا أيضا القوة الاقتصادية النافذة، فمنهم كان كبار التجار ورجال الأعمال، ونظراً للصلة الوثيقة التي كانت تربط البيوريتانية باليهودية فقد تهيأ لليهود مجال واسع للمساهمة في النشاط التجاري دون خوف أو وجل من البيوريتاني، ولم يكن عسيراً على رئيس إنجلترا البيوريتاني آنذاك “أوليفر كرومويل” أن يدرك مدى الفائدة التي كان بمقدور اليهود تقديمها لاقتصاديات بلاده وخاصة تجارياً، لذلك أبدى اهتماماً كبيراً بشؤونهم مقدماً كثيراً من التسهيلات لهم.

وقد نظم عدد من البيوريتانيين الإنجليز حركة بهدف مساعدة اليهود على الاستيطان في فلسطين، وقاموا عام 1649م بتقديم عريضة إلى الحكومة لتحقيق هذا الغرض؛ فيما عُد مؤشراً للقوى الحاكمة في بريطانيا وغيرها كي تولي مزيداً من الاهتمام لفلسطين وتدرس بجدية مدى الفائدة المترتبة على ذلك سياسياً واقتصادياً. ورغم أن هذه الحركة لم تتمخض عنها أية نتيجة عملية إلا أن فلسطين قد شهدت منذ منتصف القرن الثامن عشر نشاطاً مكثفاً واكب التوسع الإمبريالي الغربي(8) الناجم عن نمو الرأسمالية وسعيها للتوسع.

لقد دشن نمو الرأسمالية في أوروبا عصراً اقتصادياً جديداً، وحين حققت الثورات البرجوازية سيادة الرأسمالية سياسياً حدثت ثورة في حياة الطوائف اليهودية، فقد كان ذلك إيذاناً بفتح الطريق واسعة أمام اندماج الطوائف اليهودية بالشعوب التي كانت تعيش بين ظهرانيها. وقد كانت الثورة الفرنسية نقطة حاسمة في عملية انعتاق اليهود واندماجهم بالشعوب اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، فقد نشرت الحروب النابليونية مبادئ الثورة البرجوازية الديمقراطية ومنها مساواة اليهود بسائر أبناء شعوب الأقطار الأوروبية التي وصلتها تلك الجيوش الفرنسية(9).

كانت فرنسا في ذات الوقت أول من طرح بشكل جدي فكرة توطين اليهود في فلسطين، فقد أعدت حكومة الإدارة الفرنسية عام 1798 خطة لإقامة “كومنولث يهودي في فلسطين” حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي بما فيه فلسطين. ويبدو أن نابليون كان مطلعاً على الاتصالات الجارية بين زعماء يهود فرنسا وحكومة الإدارة الفرنسية، واتضح له مدى الخدمات التي كان بمقدور اليهود تقديمها له، ومن ثم أصدر بياناً حث فيه اليهود على الالتفاف حول رايته من أجل إعادة “مجدهم الغابر” وإعادة بناء “مملكة القدس القديمة”، ثم وجه نداءً آخر عام 1799 منادياً اليهود بوصفهم “ورثة فلسطين الشرعيين” وداعياً إياهم لمؤازرته طالباً منهم العمل على “إعادة احتلال وطنهم”.

ويرى الدارسون أن موقف نابليون كان سعياً لكسب ثقة يهود فرنسا ودعمهم المادي في صراعه الذي بات وشيكاً مع حكومة الإدارة الفرنسية، ورغبته في استقطاب الجاليات اليهودية في الشرق وجمعها تحت لوائه لتحارب معه، ثم تشجيعهم على الاستيطان في فلسطين بغية إيجاد حاجز مادي بشري يفصل ما بين مصر وسوريا بما يدعم احتلال فرنسا لهما، فضلاً عن تهديد مصالح بريطانيا من خلال إغلاق طريق مواصلاتها المؤدي إلى الهند(10).

ورغم أن بيان نابليون فقد قيمته بمجرد هزيمة الحملة الفرنسية بالشرق، فإنه كان بمثابة اعتراف دولي بوجود قومي يهودي، واعتقاد ببعث أمة يهودية في فلسطين، فملايين اليهود المشتتين في أوروبا يجب أن يجمعوا في نهاية المطاف في دولة يهودية في فلسطين تخدم مصالح إحدى القوى الاستعمارية الأوروبية (فرنسا) عن رضا، ومن ثم فمع نهاية القرن الثامن عشر كانت الأفكار الصيهونية قد ترسخت في فرنسا لاسيما من خلال التعاليم الدينية المقترنة بأخلاقيات العهد القديم التي كان يبشر بها الهوجونوت البروتستانت والجنسيون الكاثوليك، وبالتالي لم يكن غريباً أن انتعشت الآمال الصهيونية في عهد الإمبراطور نابليون الثالث (1756- 1870) عندما تجددت النشاطات الاستعمارية على نطاق أشد، وبناء عليه تجددت الدعوة لإحياء القومية اليهودية وتوطينها في فلسطين استناداً لما يمكن أن يعود على أوروبا من مكاسب نتيجة لذلك. وقد كان أرتست لارهارن السكرتير الخاص لنابليون الثالث؛ هو الداعم الأول لتلك الفكرة، حيث دعا أوروبا كلها أن تساعد على انتزاع فلسطين من الإمبراطورية العثمانية وإعطائها لليهود، ورغم أن هذه الدعوة لم تتمخض عن نتائج سياسية آنية، إلا أن جيل الصهيونيين اليهود الذي كان آخذاً في الظهور على مسرح التاريخ اليهودي تبنى هذه الأفكار، ففي عام 1862 نشر موسى هيس أحد الآباء المؤسسين للصهيونية اليهودية؛ كتابه “روما والقدس” الذي اقتبس فيه الكثير من كتاب لارهارن وكان واثقاً من دعم فرنسا لمساعي الصهيونية في فلسطين(11).

وهكذا فقد ذهب أمل نابليون في توطين اليهود في فلسطين أدراج الرياح بمجرد هزيمة حملته، كما أن هزيمته النهائية في “واترلو” آذنت بانكفاء فرنسا على مشاكلها لفترة طويلة نسبياً، هذا في الوقت الذي أذن شعار الثورة الفرنسية الداعي للإخاء والمساواة؛ بإتيان ثماره بتزايد اتجاه اليهود نحو الاندماج في مجتمعاتهم، بيد أنه نتيجة للتطور غير المتعادل بين أقطار أوروبا كان طبيعياً أن تتفاوت عملية انعتاق اليهود واندماجهم، فتخلف انعتاق يهود الولايات المتحدة الألمانية عنه في فرنسا، واتخذت عملية انعتاق اليهود في روسيا القيصرية طابعاً معقداً حيث تعرضوا للقمع الشديد والتميز فضلاً عن وقوعهم ضحية لبعض المذابح(12).

إلا أن عملية الاندماج لم يكن لها أن تتم دون صعوبة بالغة، فمع التراكمات الكمية المتزايدة للتبادل الرأسمالي في أوروبا، ومع تقدم المجتمعات الأوروبية باتجاه المزيد من احتلال العلاقات الرأسمالية لمواقع الصدارة بين أنماط الإنتاج وإزاحتها للبنية الإقطاعية، ومع نمو فئات تجارية ومصرفية مسيحية؛ انفجرت مشكلات اليهود في أوروبا نتيجة لمزاحمتهم الفئات التجارية الجديدة، واتخذ اضطهاد اليهود في أوروبا الغربية أشكالاً سافرة اضطرت أعداداً كبيرة منهم للنزوح إلى أوروبا الشرقية والقارات الأمريكية.

حدث هذا في وقت كانت أوروبا الشرقية خلاله تتقدم بخطوات أبطأ نحو الرأسمالية، وعندما اتضحت وتمايزت العناصر الأولية للصعود الرأسمالي في روسيا وبولندا أصبح اليهود فئة مزاحمة للتجار المصرفيين الروس والبولنديين المسيحييين؛ مما فجر من جديد صوراً أشد قسوة ضد التجار الرأسماليين اليهود، وقد ترافق هذا الاضطهاد مع بروز دعوات معتقدية يهودية للحفاظ على الشعائر الدينية مجسدة شكلاً انعزالياً سمي بالصهيونية الروحية، هذا على حين نجحت عائلات محددة أن تستثمر المناخ الداعي للاندماج فشكلت أقطاباً صناعية ورأسمالية هامة وأن تجد لها بالتالي مكاناً في عالم الرأسمالية.

ومع ارتقاء عدد كبير من الماليين اليهود في هذا العالم ظهر ميل لدى الرأسمالية اليهودية إلى التعبير عن حاجتها لكيان سياسي قادر على حماية إنجازاتها، ومن ثم استغلال الأفكار التي بلورها الإصلاح الديني حول العودة والعهد الألفي لإيجاد كيان سياسي يهودي مستقل يوفر لها شروط استثمار ذات أرباح أعلى وغطاء سياسي في مواجهة النزعات المعادية لليهود التي كانت تبرز في المجتمعات الأوروبية من آن لآخر، ويستطيع -هذا الكيان- أن يوفر ضمانات لاستمرار الصعود الرأسمالي للفئات اليهودية المتوسطة التي باتت الاحتكارات السائرة باتجاه التركز تهدد ارتقاءها المأمول وتنذر الرأسمالية بتحويلها إلى مواقع الطبقة العاملة(13).

لقد شهدت تلك المرحلة احتدام الصراع بين الرأسمالية المتنامية والطبقة العاملة البازغة، ومن ثم لم ير القرن التاسع عشر شيوع إيدولوجية الاشتراكية العلمانية فحسب، بل شهد كذلك مولد الحركة العمالية ضد السيطرة الرأسمالية الفرنسية المعروفة باسم “كوسيونة باريس”، وبالتالي اتجهت الرأسمالية لاتباع مختلف الأساليب لوقف المدى الثوري من قمع وإرهاب ثم اللاسامية لتحويل الصراع الاجتماعي عن مساربه الصحيحة.

ويحدد كثير من المؤرخين وقت ظهور اللاسامية في السبيعينيات من القرن التاسع عشر مؤكدين أن الساسة قد لجؤوا إليها خدمة لأغراضهم، حيث استخدمها ساسة اليمين في مواجهة ساسة اليسار، وفسروا أسباب عدم الاستقرار بأنها نتيجة شرور اليهود، وبالتالي لجأ بسمارك إلى اللاسامية في معركته السياسية حين قاد معركة حزب المحافظين مع الأحرار الذين اعتبرهم تقدميين، وهكذا فعل الكثير من الساسة غيره لاسيما في أوقات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ولا يهمنا طبعاً من اللاسامية هنا غير مقولتها الأساسية، حيث تعتبر اليهود أمة منفصلة لا يمكن لأفرادها أن يندمجوا بالشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها(14).

تلك الاستعدادات في الظروف الموضوعية لطرح فكرة “عودة اليهود” لفلسطين وإنشاء دولتهم الخاصة؛ توافقت مع متطلبات المشروع الرأسمالي المتحول إلى إمبريالي في الشرق، في وقت كانت فيه صراعات القوى الرأسمالية الأوروبية لتقاسم المستعمرات على أرضية ميزان قوى أوروبي سريع التذبذب؛ أهم ما يميز الخارطة السياسية الأوروبية. ولعل من بالغ الدلالة الإشارة إلى أن مسألة إقامة دولة يهودية في فلسطين قد طرحت أولاً من قبل الرأسمالية الأوروبية الساعية لتوسيع رقعة سيطرتها عالمياً وتكريس هيمنتها على أسواق وخامات الشرق الأدنى والأوسط وإفريقيا(15).

——–

8- د. أمين عبد الله محمود، مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، الكويت، سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الوطني للثقافة والآداب، 1984، ص 13.

9- د. أميل توما، مرجع سابق، ص 28- 29.

10- د. أمين عبد الله محمود، مرجع سابق، 14- 16.

11- ريجينا الشريف، مرجع سابق، ص 110- 113.

12- د.  إميل ت وما، مرجع سابق، ص 31- 33.

13- ملحم خالد ملحم، مرجع سابق، ص 23- 25.

14- د. إميل توما، مرجع سابق، ص  35- 40.

15- ملحم خالد ملحم، مرجع سابق، ص 25.

> مجلة قضايا دولية ع 261

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>