المفروض في المنطق الذي ينبغي أن يحكم سفينة المجتمع المسلم أن يكون قائما على الاتساق والانسجام مع مراد الله عز وجل المتمثل في شرعه الحكيم ومنهجه القويم، بحيث تكون مفردات ذلك الشرع وكلياته هي الإطار الناظم لحركة الأفراد والجماعات والمؤسسات على حد سواء، ويكون تَرَسُّم أركان المنهج وثوابته الربانية هو الضامن لجريان التطور الفكري والاجتماعي والاقتصادي، وغيره من أبعاد، ترتبط بالوجود الإنساني على هذه الأرض، في المجرى الصحيح الذي يؤمن تحقيق المقاصد التي من أجلها أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وتتمثل الدلالة الفعلية والرمزية الكبرى لهذا المنطق في السجود لله سبحانه وتعالى جملة وتفصيلا، سجودا خاشعا كاملا قوامه الخضوع والتسليم له جل جلاله، مصداقا لقول الله العلي القدير: {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء : 65). ولا مراء في أن الخروج قيد أنملة عن مقتضيات هذا المنطق الصارم الحكيم، يعتبر عصيانا لله عز وجل وتمردا عليه وخروجا عن الفطرة التي فطر سبحانه الناس عليها، وانسياقا ومطاوعة لاجتيال الشياطين التي آلى كبيرهم إبليس اللعين على نفسه أنه سيعترض سبيل ذرية آدم ويقيم عليها حواجز الغواية، وفخاخ النزغ والوسوسة والغرور، التي لا تنطلي بحال إلا على من كانت فيهم قابلية السقوط في أحابيلها بسبب الاستسلام لسلطان الهوى، والركون للنفس الأمارة بالسوء. يقول الله سبحانه تعالى مخبرا عن إبليس(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(الأعراف :16). ويقول سبحانه وتعالى معبرا عن عدم انطلاء غواية الشيطان على الفئة المحصنة بالذكر والإيمان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(ص : 83-82) فالشيطان اللعين هو الذي حمل لواء التمرد والغواية، ورفض الطاعة للواحد الديان برفضه السجود لآدم عليه السلام، بدافع الكبر الذي سول له أنه يفضله، متذرعا بكونه خلق من طين، أما هو فمخلوق من نار، مصداقا لقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}(الأعراف 12). إن كل الذين يتولون كبر التمرد على شرع الله الحكيم داخل سفينة مجتمع مسلم المفروض فيه أن يعبر عن صفته وشعاره في ميدان العمل والسلوك، لا يملكون أي مصداقية في زعمهم الإتيان بجديد، تحت لافتة الحداثة والعصرنة، لأن مواقفهم وأفعالهم، وهم يرفضون الإذعان لمنهج الله وحكمه، لا تعدو أن تكون اتباعا حرفيا بليدا لفعل إبليس الذي ظن برفضه السجود لآدم عليه السلام، أنه قد جاء بجديد محمود، ويخوله أن يتيه خيلاء وشعورا بالتفوق والإبداع. والحقيقة أن ما اعتقده كذلك ليس إلا وهما قاتلا، لأن قوام التفوق ليس منوطا بالطين أو النار باعتبار كل منهما مادة لها خصائص معينة، وإنما هو منوط بالحقيقة التي يعبر عنها، وبالسر الذي يحمله بين جوانحه، وبالوقوف موقف الصواب والتسليم بذلك الحق. إنه الوهم عينه، ذاك الذي يسقط فيه المشاكسون لميثاق سفينة يؤمن السواد الأعظم من أهلها بأن الذي يسدد أمرها ويحكم جريانها في خضم الأمواج العاتية، إنما هو التمسك بكتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. إن المعاندين لبنود الميثاق الذي ارتضاه أهل سفينة المجتمع لأنفسهم دليلا ونبراسا، مطالبون بموجب الوطنية التي يزعمون التبرقع بلباسها أن يميزوا في ” أضعف الإيمان” بين أن يرفضوا الإيمان بميثاق السفينة والالتزام بمقتضياته في خاصة أنفسهم، وبين أن يتركوا أهل السفينة وشأنهم وهم يسعون إلى أن يجسدوا قيم الميثاق وبنوده في واقع حياتهم، وأن لا يحشر المشاكسون أنوفهم في ذلك الشأن، وهذا أدعى أن يتركوا وشأنهم، ويوكل أمرهم إلى أنفسهم، وإن ذلك لعمري هو الحد الأدنى من جانبهم، إذا ما أرادوا أن يحظوا بصفة الوطنية ولو في معانيها الدنيا. ولعل ذلك الحياد من جانب هؤلاء أن يكون فرصة للتأمل والتفكير الهادئ في مصلحة السفينة التي تحملهم في جملة ما تحمل من قطاعات وفئات ينبغي أن يوحدها الولاء لتلك المصلحة، مهما اختلفت الفهوم والاجتهادات، عسى أن يتوج ذلك التأمل والتفكير -إذا صدقت النيات- بأوبة شرائح من هؤلاء المخالفين لميثاق السفينة إلى الحق الذي به يصلح أمرها ويشتد عودها، فتحقق غاياتها السامية المتمثلة في العزة والمنعة، والنصر والكرامة. إن منطق “خلقتني من نار وخلقته من طين” من شأنه إذا استشرى في أوساط السفينة، من شأنه أن يشكل ثقافة مسمومة وبضاعة مغشوشة تزرع الفتنة وتسمم الأجواء، وتزرع الفوضى الفكرية والثقافية التي تضيع معها فرص تحقيق التماسك الاجتماعي الذي يصنع قوة المجتمع ويحصن جبهته في وجه الأعاصير والأنواء. وصدق الله العظيم القائل: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}.
د. عبد المجيد بنمسعود