العمل الوظيفي بين الواجب الديني والدنيوي


التوازن والاعتدال في العمل من أهم مبادئ الشريعة الإسلامية، قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} الوسطية في التكليف أمر أساسي في أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى لم يكلفنا إلا بما نطيق، وهذا مبدأ عام في العبادات والمعاملات؛ فالمؤمن كلف بأمرين متلازمين متكاملين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولا تتحقق الغاية من وجوده إلا بهما معا؛ أولهما عبادة الله، قال تعالى: {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} وثانيهما خلافة الله في تعمير أرضه وإصلاحها، لقوله تعالى : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} تحقيق هذين المقصدين معا، هو الغاية الكبرى من خلق الإنسان. وقد أكد هذا المبدأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسي، صدق سلمان، في حديث أبي جحيفة ” إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان”. فالتوازن بين الحقوق والواجبات، مدار الرحى في الشريعة الإسلامية، وبسبب سوء فهم هذا الموضوع، يرتكب مجموعة من المسلمين أخطاء فادحة في حياتهم اليومية، في كل المجالات، بعضهم بسوء نية، وبعضهم بحسن نية، وأخص في هذا المقام الموظف بشكل عام، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، لاسيما، تلك الفئة التي تهمل واجبها الوظيفي بدعوى قيامها بالشعائر الدينية اليومية؛ مثل الصلاة، أو الصيام، أو غيرهما كقراءة القرآن في مكان العمل، وهي أثناء تعبدها تساهم في تعطيل حقوق الآخرين، وهذا هو عين الإشكال، فالعبادة حق الله والعمل الوظيفي حق العباد، كيف يستطيع الموظف أن يجمع بين الأمرين دون تغليب أحدهما على الآخر؟ لاشك أن العمل في الإسلام عبادة، إذا كان فيه إتقان وإخلاص النية لله تعالى. قال تعالى : {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين….} فالذي يخدم المسلمين، وييسر لهم قضاء حوائجهم له أجر عظيم عند الله وإن كانت تلك وظيفته؛ لأنه ساعد أخاه المسلم، وأدخل على قلبه البهجة والسرور، وقد يكون ساهم في التخفيف عنه من الهم والحزن دون أن يدري، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه يوم القيامة كربة من كرب الآخرة”. وهذا ما لا يدركه الكثير من الموظفين في عملهم اليومي مع المواطنين، فهو لا يدري أنه بموازاة الأجر الدنيوي الذي يتقاضاه عن وظيفته، يجني أجرا عظيما مع الله سبحانه وتعالى ، إذا أخلص في عمله وأداه على أحسن وجه. لكن العجيب والغريب؛ أننا نصطدم بشكل يومي مع موظف مسلم، أنعم الله عليه بعمل قار يعينه على نوائب الدهر، ويساعده على قضاء مصالحه ومتطلباته في الحياة، وينال به الثواب والأجر مع الله جل وعلا عند أدائه، وتجده يتملص من القيام بواجبه بشكل جدي، أو يلجأ إلى عرقلة مصلحة المواطنين بشكل متعمد لكي يضطروا إلى دفع الرشوة له ليقضي لهم ما هو واجب عليه أصلا. هذه الفئة لاشك أنها تتعمد أكل الحرام وهي بذلك سوف تحاسب أمام الله عن كل فلس أخذته من أي مواطن بغير موجب شرعي، قال تعالى : {ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}. ومع الأسف الشديد؛ ظهر في إداراتنا اليوم فئة أخرى تعرقل السير العادي للمرفق العام، وتعطل حقوق الناس، بدعوى القيام بالواجبات الدينية، وقد اتخذ البعض هذا الواجب الديني وسيلة للتملص من عمله، وعندما تسأل عنه يجيبك أنه ذهب للصلاة، ولا يعود منها في الغالب إلا بعد نصف ساعة أو أكثر، ويحتج عليك أن من حقه ذلك. نعم لا نجادل في حقه في القيام بالعبادة، لكن متى؟ وكيف؟ وأين؟ هو الذي يستحق أن نجادل فيه. فالموظف إذا كانت الصلاة في المسجد مع الجماعة قد تساهم في تعطيل حقوق الناس ليس مطلوبا منه الذهاب إلى المسجد، بل ينتظر لكي يخف الناس عليه، ويؤدي صلاته في مقر عمله قبل انقضاء وقتها المختار، مع بعض الموظفين بشكل جماعي أو وحده، أو أثناء استراحته لتناول الطعام، وبذلك يكون قد حصل على فضل الصلاة في الجماعة، وفضل القيام بواجبه المهني. بل بعضهم يغيب لساعتين أو أكثر عن مكان عمله بدعوى الذهاب لصلاة الجمعة، وهو لا يدري أن غيابه عن العمل فوق الوقت اللازم لأداء صلاة الجمعة حرام، مثله مثل ذاك الذي يأخذ الرشوة؛ لأن كلا منهما يتقاضى مالا بدون موجب شرعي، أو يترك واجبه الوظيفي ويأخذ المصحف لقراءة القرآن؛ فقراءة القرآن لها وقتها، ومكانها، وبالتالي إذا كانت سببا في تعطيل مصالح الناس فقد أذنبت أيها الموظف؛ لأن وقتك ليس ملكا لك أثناء العمل، فهو ملك الآخر، وأنت تأخذه منه بدون حق لتنفع نفسك، وهذا لا يجوز شرعا. ويزداد الأمر سوءا في شهر رمضان؛ حيث يتخذه مجموعة من ضعاف الإيمان سببا وجيها في التأخر عن الالتحاق بمقر العمل في الوقت، وبمغادرة مكان العمل قبل الوقت، بدعوى الصيام والسهر في الليل لأداء صلاة التراويح، وهو بذلك يهمل الفرض المتمثل في الواجب المهني، ويهتم بالنوافل المتمثلة في صلاة التراويح، دون أن يدري أن الإسلام يقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في كل تكاليفه الشرعية، فقيام الليل مصلحة فردية تعود بالنفع والأجر على الموظف وحده، أما القيام بالوظيفة مصلحة جماعية تعود بالنفع على العامة وهي مقدمة على غيرها. إن الإسلام لم يأت لعرقلة مصالح الناس، أو يكون سببا في تعطيلها، بل الأصل فيه أنه يخدم مصالحهم من خلال تشريعاته اليومية، فالصلاة الأصل فيها أنها تربي المصلي على الانضباط للوقت، والمواظبة على أداء الواجب، وتعلمه الإخلاص والإتقان والصدق في القول والعمل. قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ” وعين المنكر إهمال الواجب الوظيفي أو التفريط فيه بدعوى القيام بالواجب الديني، فيجعل المسلم العبادة غطاء يتستر به عن كسله وخموله في الوظيفة المكلف بها، مع أنه يملك متسعا من الوقت للقيام بشعائره الدينية.
ذ. محمد البخاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>