نظرات في مفهوم العِلم والعلماء في القرآن الكريم


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. عنوان هذه الكلمة هو “نظرات في مفهوم العِلم والعلماء في القرآن الكريم”، فهي ليست دراسة للمفهوم في القرآن الكريم، ولكنها نظرات في بعض جوانبه، مدارها على قدر ما يسَّر الله تعالى على خمس نقط:

النقطة الأولى: مقدمة في شدة حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم.

النقطة الثانية: في مصدر العِلْم في القرآن الكريم.

النقطة الثالثة: في طبيعة العِلْم في القرآن الكريم.

النقطة الرابعة: في موقع العُلماء في القرآن الكريم.

النقطة الخامسة: خاتمة في شدة حاجة الأمة اليوم إلى العالَم القرآني.

النقطة الأولى: مقدمة في شدة حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم. بالنسبة للنقطة الأولى، أقول: أيها الأحبة، الكلمة بمثابة نظرات في مفهوم لفظ من أجلّ وأهم ألفاظ كتاب الله تعالى، ونحن في هذه المرحلة بالذات حاجتنا شديدة إلى أن نتخذ من القرآن الكريم – كما كان الأمر أول مرة- أن نتخذ من القرآن الكريم مركز الانطلاق وأساس الانطلاق في تجديد روح الأمة، الأمة لن تنهض لا بالقوميات ولا بالوطنيات ولا بالعلوم في الأرض، وأنى لها ذلك؟ لأنها ذات طبيعة خاصة، لن يمكِّن الله لها في الأرض إلا إذا تابت توبة نصوحا، وعادت إلى ربها؛ لأن نشوءها أساساً كان انطلاقاً من هذا الكتاب. قبل نزول القرآن الكريم كانت الجزيرة العربية نفسها أنواعاً من الخَلق لا يجمعهم جامع، كانوا عجائب من الخَلق، وكذلك الأمر بالنسبة لغيرها من الأمم ممن التحقوا بها بعد تمكين الله عز وجل لدينه في الأرض، لكن بعد نزول القرآن الكريم أصبحت هذه العجائب من الخلق أمة واحدة موحَّدة موحِّدة ذات حضارة عالمية عالية كبيرة، ولذلك فلن يصلُح آخِر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولذلك أيضا لابد من تجديد روح الأمة، والأمة جسد ليس له روح إلا هذا القرآن، وهي عبارة عن مئات الآلاف من الأموات ما لم تحل فيهم روح القرآن فيتجدد بهذه الروح، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}، {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، (مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)، لا حياة لهذه الأمة بغير القرآن، ولا تُنتظر منها آثار في التاريخ ولا في مسيرة البشرية ما لم تعُد من جديد إلى القرآن الكريم، وما لم تحْيَ حياة جديدة، هي الآن تكاد تكون ميتة، إن هي إلا أشلاء مبعثرة في أرجاء الكرة الأرضية، ليس لها جامع حقا، ليس لها حتى الآن شخصية الأمة الواحدة، ولا تستطيع أن تفعل أي شيء مادامت بهذا الشكل {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. التفرق الآن هو الأساس للأسف الشديد، من الذي يُمكن أن يصحح الوضع؟ إنما هو الأمر الأول الذي فيه السِّرّ، هو كلام الله تعالى، هو أمرُ القرآن، وهذا القرآن لن يُمْكِن الانطلاقُ منه وفهمُه الفهم الصحيح إذا لم يُتمكَّن أيضاً من المفاهيم الجزئية المكوِّنة له في الألفاظ المفردة وفي الأنساق التي تتكامل مع بعضها في إطار نسق كليّ شامل لهذا القرآن، وهو ما يشير إليه حديث جبريل عليه السلام “الدين” ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)). من هذه اللفظة يتشعّب الإسلام والإيمان والإحسان، ومن كل لفظة من تلك الألفاظ تتشعب أيضاً أركانٌ: بُني الإسلام على خمس، وبُني الإيمان على ست، وبُني الإحسان على اثنتين، كما هو واضح في الحديث، هذا الاهتمام الذي يجب أن يكون على التمكّن من المفاهيم القرآنية، من مفاهيم الألفاظ القرآنية، هناك فرق بين دراسة معنى اللفظ ودراسة مفهوم اللفظ، أي مفهوم المصطلح. في دراسة المعاني لا يُهتم بالصفات ولا يُهتم بالعلاقات، علاقات الائتلاف وعلاقات الاختلاف، ولا يُهتم بالضمائم. وفيما يتعلق بهذا الموضوع، وقفت بالخصوص عند هذه الضمائم على سبيل المثال ضميمة “الذين أوتوا العلم”، وضميمة “أولوا العلم”، ومصطلح “العالمون”، ومصطلح “العلماء”، و”الراسخون في العلم”، كلها ألفاظ وردت في كتاب الله عز وجل، وهي قطعاً ليست متساوية، فما العلاقة بينها؟ ما هي مفاهيمها بالضبط؟ وكيف يمكن أن نرتب تلك المفاهيم؟ فهذه أمور خمسة على سبيل المثال داخل إطار مصطلح “العلماء”، لا يمكن التمكن منها ما لم يتمكن من بعضها في علاقتها ببعضها ليُتمكن منها جميعا على سبيل المثال، فلذلك لابد من السعي، سعي أهل العِلم، أهل العِلم أقصد الباحثين في عالم القرآن الكريم، لا في علوم القرآن. كثيراً ما طافت الأمة حول القرآن، وإننا الآن نطوف حول القرآن في مؤسساتنا التعليمية السفلى والدنيا والعليا، نطوف حول القرآن ولا ندخل إلى عالَم القرآن، لا نركِّز على القرآن الكريم، لا ندخل إلى عالَم القرآن. النصوص المقرَّرة أو السور المقررة من كتاب الله عز وجل في مؤسساتنا التعليمية ضعيف، ضعيف، ضعيف!! فلابد إذن من بذل الجهود من أهل العِلم الربَّانيين الذين يُحسّون بضغط هذه الحاجة، لابد أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا، ليستطيعوا الاطلاع على هذا الأمر الجسيم الذي الحاجة إليه شديدة اليوم في الأمة كلها، ضرورة معجم مفهومي للقرآن الكريم يعتني بالمفاهيم دارساً لها على طريقة المفاهيم لا على طريقة معاني الألفاظ، ليكون ذلك هو المفتاح، في إطار هذا جاء هذا المفهوم.

النقطة الثانية، في مصدر العِلْم في القرآن الكريم. هذه النقطة لها أهمية كبيرة؛ فالعلم أولا مصدره الوحيد في هذه الأمة، هو الله جل جلاله من اسم الله العليم يعلم كل من عَلم أي علم، كما أنه ثانيا ينبغي أن نُحصِّل عالَم القرآن من داخل القرآن لا من خارج القرآن، ينبغي أن نصحب القرآن ونعيش في عالَمه، فما يصوِّره هو لنا من مفاهيم وتصورات هي التي بعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووسائل دراسة النص المعروفة في اللسان العربي، على رأسها اللسان العربي ذاته، أقول هي التي تمكننا من استخلاص الرؤية الشاملة والعلاقات في جميع الاتجاهات. والأمة الآن دخل عليها شر كثير من رافدين كبيرين: أولهما رافد معاصر هو الغرب، حيث دخل من خلاله شرٌّ كثير في الرؤيا والتصوّر الذي يحكم نظام الكون والحياة والإنسان بصفة عامة وعلاقتهم جميعا بخالقهم جل جلاله، هذا الشرُّ مازال متمكِّنا ومازال مستشريا واقتلاعه من الصعوبة بمكان، ولكنه لابد مقتلَع إن شاء الله عز وجل، سيُقتَلَع يوماً ما بصورة طبيعية، بحركة التاريخ نفسها، والأمارات والدلائل كثيرة ترجع إلى نحو القرنين تقريبا، والتطور الكبير الذي عرفته الأمة ولاسيما في القرن السابق، يدل على أن الأمر سائر في هذا الاتجاه بإذن الله تعالى. وثانيهما رافد تاريخي، أي أنه جاء من مشاكل التاريخ، طبعا لم يأت من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا قطعا، إنما جاءنا من مصائب وقعت في التاريخ وأثّرت حتى في فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكوَّنت أشياء إذا وُزنت اليوم، بما هو في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتبرأ منها. حينما علم الله جل جلاله آدم الأسماء كلها، وضع للملائكة اختبارا {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، هذا الموقف من الملائكة هو موقف من جميع الخلائق، كل الخلائق لا عِلم لها إلا ما علَّمها الله جل جلاله، نحن نخرج -كما قال الله تعالى- من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}، أي نوع من أنواع العلم، مهما كان بسيطا لا نعلمه، ونعوذ بالله أن نُردّ إلى أرذل العمر، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}، يعود إلى نقطة الانطلاق. بين هذا وذاك يوجد تعليم الله عز وجل، بجميع أنواعه؛ الذي علَّمه رُسله، علمه أنبياءه، علمه أحدا من خلقه..، التعليم بجميع أنواعه، التعليم الذي هو التعليم المباشر في أمر الوحي، أو التعليم العام لجميع ما يمكن أن يتعلمه الإنسان، {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} مُطلقاً، الله جل جلاله هو العليم بكل شيء الذي لا يُعلَم دون تعليمه أي شيء، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}، إلا بما شاء، {وعنده مفاتيح الغيب}، {عالِم الغيب} {علام الغيوب} {عالم الغيب والشهادة}، العلم باختصار في كتاب الله، والآيات كثيرة كثيرة كثيرة التي تُقرّر هذه الحقيقة: أن العلم كله من الله جل جلاله سبحانه وتعالى، والإنسان جاهل بكل شيء قبل أن يُعلِّمه الله تعالى أي شيء.

النقطة الثالثة في طبيعة العِلم في القرآن الكريم:

أول هذه الطبيعة أنه وحي، فالقرآن الكريم سمَّى الوحيَ عِلماً، كما سمى القرآنَ علماً، وهذا الأظهر فيه {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}، بعد الذي جاءك من العلم؛ فالوحي علم، {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} زدني قرآناً، فالقرآن عِلْم، هذا هو العلم الحقّ الصافي النّازل من عند الله عز وجل، والألفاظ التي استُعملت فيه كلها ألفاظ تدل على أنه آت من عند الله تعالى، {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، استعمال اللفظ “جَاءَ، يَجِيءُ” كثير جدا في هذه الآيات.

ثانيا، أنه عِلم الحياة، الحياة على حقيقتها وفي حقيقتها، هذه دنيانا وبَعدَها أخرانا، وهي الحياة، ومرحلة الموت هي مرحلة انتقالية في انتظار أن تَبلغ الحياة الأخرى التي لا نهاية لها، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. أما العلم المرتبط بالحياة الدنيا فلا قيمة له إذا ارتبط بها فقط، ولذلك بيّن الله عز وجل أن الذين يعبدون غير الله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يَعلَمون ظاهرا من الحياة الدنيا، فهذا العِلم ليس لشيء، إلا لظاهر الحياة الدنيا، ولذلك لا قيمة له إلا إذا ارتبط بأصله، أي: إذا نُظر إليه نظرة شمولية كما هي في القرآن الكريم، فكل الأشياء التي هي موجودة في ظاهر الحياة الدنيا مرتبطة من جهة الله جل جلاله خالقِها سبحانه وتعالى، ومرتبطة بوظائفها التي لا تُرى علاقاتها إلا إذا كان الوحي. أستطيع أن أقول إن عِلم أي مؤمن لا يُصنَّفه ضمن العلماء ولكن إيمانه عِلم، أي إذا كان إيمانه صحيحاً بكليات كتاب الله تعالى، فعِلمه أوسع بكثير من جميع العلماء الذين لا يومنون، مهما بلغ شأنهم في عِلم الدنيا، سواء أكان ذلك على مستوى العلوم المادية أم على مستوى العلوم الإنسانية، لأن نظرتهم قصيرة جدا، ولذلك انتحر كثير من العلماء الماديين بسبب هذا الضيق في النظرة والأفق. المسلم يرى الدنيا بامتداداتها ويرى الآخرة بلا نهائيتها، ومن ثم فعلمه كبير جداً بالنسبة لعلم أي مادي الذي بموته تنتهي قصته ولا يبقى منه شيء، وبذلك لا يكون علم المؤمن إلا مفيدا؛ {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}.

ثالثا: أنه العلم الحق {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أعمى عن ذلك، لا يرى شيئاً؛ لأن الذي لا يعلم علم الوحي مؤمناً به، حتى ولو علمه دون إيمان به لا يفيده: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}، {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}.

النقطة الرابعة: موقع العلماء في هذا القرآن الكريم. وهو لاَفِت للانتباه جدا في آية سورة آل عمران، في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} هذا التصنيف أو الترتيب، الله جل جلاله، ملائكته، أولوا العلم مباشرة. وإن سأل سائل وأين الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ وأين الأنبياء؟ وأين؟ وأين؟ كل ذلك، أولئك هم رؤوس أولي العلم، لأن هذا العِلم الذي عنه الحديث هو هذا الذي نزل من عند الله عز وجل، وجاء من عنده، لأنه هو الذي يؤدي بمن آمن به ويدفعه دفعاً إلى إنتاج العِلم في العلوم الإنسانية، والمادية على حد سواء، لأنه يكون مسخَّرا بكامله له، ويرى أن الله جل جلاله يُثيبه على تسخير ما خَلق لإعلاء كلمة الله ولإعمار الأرض، فكون هذا الموقع يجعل العلماء في الرتبة الثالثة بعد الله جل جلاله وبعد الملائكة، ممن يشهد بقيام الله عز وجل بالقسط في جميع وكل ما يتعلق به، {صُنع الله الذي أتقن كل شيء}، فصنع الله المتقَن يراه أهل العِلم، علماء الإنسان وعلماء المادة، وخصوصاً علماء المادة يرون إذا كانوا مؤمنين، يرون من آيات الله -كما يُبيَّن ذلك في بعض مظاهر إعجاز القرآن الكريم- ما يجعلهم يشاهدون عياناً عظمة الله جل جلاله، وقدرته وحكمته، وغير ذلك من تجليات أسمائه الحسنى وأفعاله وآياته عز وجل. كما أن العلماءَ المصدرُ الثاني بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ العِلم النازل من عند الله عز وجل، {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، ولذلك فهم ورثة الأنبياء، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. وبسبب كل ذلك فإن درجاتهم عند الله تعالى مرتفعة عالية كما قال تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وهذه الدرجات، لابأس في تتبع بعض هذه الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم، أن يُنظر إلى علاقتها ببعضها أيها أهمّ من بعض، وأيها أعلى رُتبة من بعض مما أشرتُ إليه قبل.

النقطة الخامسة الخاتمة في شدة حاجة الأمة اليوم إلى العالِم بالقرآن الكريم: وفيها:

أولاً: ماذا قال الله عز وجل عن العالِم بالقرآن؟ قال: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} إذن الذين لا يعلمون أين هم؟ هم أهل الليل، هم رجال الليل، فأهل القرآن ليسوا كغيرهم، العلماء ليسوا كغيرهم.

ثانيا: أنهم هم الذين لا يخشون إلا الله تعالى كما تقدم في الآية، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} وإنما تأتي الخشية من العِلم بالمخشيّ، هذا الذي يُخشى، الذي هو الله سبحانه وتعالى، العِلم به هو الذي يورث الخشية، ويورث درجة هذه الخشية، يحدث هذا في الدنيا للناس مع رجال السلطة، ومع الأولاد مع آبائهم، وغير ذلك.. ولكن بالنسبة لله جل جلاله حصلها الله في كلمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}؛ العلماء هم الذي يخشون الله حق الخشية، لأنهم العلماء به، لأنهم الذين يعرفون أسماءه، وهم الذين يعرفون صفاته، وهم الذين يعرفون آياته في مُلكه، ويعرفون أفعاله، ويعرفون..، ويعرفون..، فهم الذين امتلأت قلوبهم بخشية الله جل جلاله، هم الذين امتلأت قلوبهم بجمال الله، وبجلال الله، ويَسبَحون في كمال الله جل وعلا.

ثالثا: أن من صفات العالِم القرآني أنه أخروي ربّاني، أُخروي وليس دنيويا، يقول الله في قول قارون، قال الله تعالى {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، قارون يعيش بيننا، وقارون يعيش حولنا، ويوجد قارون العالَمي، ويوجد قوارين محلّية، فلابد من أن تتجه العيون الربّانية إلى الله جل جلاله، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تعلمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، أي كتاب!، فالعلم بالكتاب يقتضي الربانية قطعا، والربانية تعطي القدوة تلقائيا وتعطي الوقوف أو التجرد إلى الله عز وجل. نسأل الله أن نكون من عباده الذين يُحبّهم ويحبّونه ورضي عنهم ورضوا عنه، ونسأل الله أن يُوفّق جميع أبناء الأمة لينخرطوا في مشروع إنهاض الأمة بالقرآن، وبالله التوفيق.

أ.د. الشاهد البوشيخي
——-
(ü) محاضرة أعدتها للنشر جريدة المحجة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>