من الدين معرفة الدين


لقد كان مما احتج به الكفار والمشركون حين دعاهم رسلهم وأنبياؤهم إلى رسالة التوحيد:

1- {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}(المائدة : 104) 2- {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين}(الأنبياء : 35) 3- {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف : 23) والآيات في ذلك الاحتجاج عديدة وهي إجابات تعني إيثار التقليد على ممارسة الوعي فيما يتعاطون من عبادة الأوثان، ومن ثم غاب التساؤل عما يعبدون، وعما هم فيه : أهو حق أم باطل؟ أم أن غيره أحسن منه؟ إن الإسلام جعل التدين قائما على العلم، ونفى التقليد في العقيدة والاتباع في العبادة، وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، لأن الإسلام يقوم على العلم كما يقوم على الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة)(1) والفطرة ألصق ما تكون بالطبع وتهدي إلى الخير، والفطرة تُعزز بالعلم وتُصقَل بالعمل، وهما معا يمنحان اليقين الذي يقوم عليه هذا الدين فلا موضع فيه للشك والتردد، أو الريب والزيغ. وكلما طلب الإنسان العلم بالدين ازداد إيمانا به، ورسخت عقيدته فيه، وتأكد له أنه عين الصواب، وعين الحق، وأن غيره دون ذلك، ولذا قال تعالى مصورا حالة هؤلاء {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}(الأنفال : 2).
إن تلك الآيات التي تليت عليهم أفادتهم مزيدا من العلم بالدين وشرائعه، وأجابت عن عدد من التساؤلات التي عرضت لهم كما تعرض لغيرهم من الناس في حياتهم اليومية. ولذا، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”(2) وفي رواية غيرها بزيادة “وإنما العلم بالتعليم”(3) فَليُؤكد أن خير الدين ما قام على العلم وخير العبادة ما قام على الفقه، لأن كلا منهما قائد إلى الخير وسائق إلى الفضائل والمحامد، وإلى تصحيح العقيدة وتصويب العبادة. وظاهر الحديث يدل على تعلق الخير بالفقه وأن العلم لا ينال إلا بالتعلم. وظاهر الحديث يدل أيضا على ما يدل عليه الحال بصيغة “من يرد”. ويحتمل أن يدل على الماضي أيضا ويكون التقدير من أراد الله به خيرا، والاستعمال جار في لسان العرب وبه ورد القرآن. والحديث يضعنا أما معنيين أساسيين : أولهما : فضل العلم من حيث هو علم نافع. وثانيهما : فضل العلم في الدين. فبالنسبة للنقطة الأولى فإنا لن نجد أفضل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال : ((تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، ودراسته تسبيح،و البحث عنه جهاد، وتعلمه ممن يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو منار سبيل أهل الجنة، والأنيس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والمحدث في الخلوة، والسنان على الأعداء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، وفي الهدى أئمة يقتدي بهم، وترمق أعمالهم، وترغب الملائكة في إخائهم، فبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم، حتى حيتان البحر، وهوام الأرض، وسباع الرمل، ونجوم السماء، ألا إن العلم حياة القلوب من العمى، ونور البصر في الظلم، به يطاع الله، وبه يعبد الله، وبه يحمد الله، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام الفعل والعمل تابعه، يلهمه الله السعداء ويحرمه الأشقياء، ولا خير في عبادة بغير فقه، ولا خير في قراءة بغير تدبر، والقليل من التفقه خير من كثير من العبادة، ولمجلس ساعة خير من عبادة سنة))(4). وعن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “باب من العلم تتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا”(5). “وباب من العلم تُعلمه، عُمل به أو لم يُعمل أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا”(6). وفي مقدمة سنن ابن ماجة : “يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة”. ومن أعظم الأحاديث في هذا الباب :

1- ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة)).

2- ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا : يا رسول الله : وما رياض الجنة؟ قال : حلق الذكر، أما أني لا أقول حلق القصاص ولكن حلق الفقه))(8). وفي رواية عن أبي عباس رضي الله عنه : “مجالس العلم”(9). وأما الفقه في الدين فهو ضرورة لا يعذر أحد يجهله، فواجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف دينه، وعلى الآباء أن يعلموا أبناءهم أمر دينهم كما يعلمونهم أمر معاشهم. لأن الدين لا ينفك عن الحياة اليومية فهو مرتبط بها، مندرج فيها، وهذا التعلم مما سيسأل عنه كل أب وكل أم يوم القيامة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كلكم راع، وكل راع مسئول عن رعيته))(10) والتربية الدينية مما سنسأل عنه يوم القيامة في حق أبنائنا وأهلينا، وإن من شأن إنجاز هذه المسؤولية أن تحفظ الإيمان و الإسلام وترسخهما في القلوب والعقول ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما عبد الله بشيء أفضل من فقه الدين))(11)، وعبادة الله لا يُفهم منها مجرد القيام والركوع والحج وملازمة السبحة…الخ فذلك قصر لا سند له، وتضييق لواسع وتقييد لمطلق دون أن يكون هناك داع لذلك. عبادة الله حاضرة في كل شيء وفي كل عمل يعمله الإنسان -مهما كان كبيرا أو صغيرا قل أو كثر- إذا قصد به الله تعالى، فالعمل عبادة، والتعلم عبادة، والسعي إليهما عبادة، وطلب الحلال عبادة والأكل والنوم عبادة، إذا قصد بهما الاستعانة على العبادة، وتحسين الأعمال بالنيات عبادة، ولن يصل أحد إلى هذا المستوى من الوعي و الممارسة إلا بالعلم، ولذا قيل : أفضل العبادة العلم، وطلب العلم أفضل من كثير من العبادات، فمن تفقه في الدين فقد أصاب، ومن لم يتفقه حرم خيرا كثيرا. والخير كما يفهم من الحديث ليس وجها واحدا، ولكنه وجوه وأبواب لا يحصيها العد من المعروف والفضل والشكر. فمن مَن الله عليه بهذا الفقه فليبشر نفسه بالخير العظيم إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم، جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسره له، ويفهم من الحديث أن المراد بالفقه مهما كان هو الفقه الذي يدعو إلى الخير ويقوم عليه وهو الذي يرغب الله فيه ويمنحه خاصة عباده ويوفقهم إليه، ولذا عد الشاطبي في المقدمة الثامنة من خطبة كتابه الموافقات : “أن العلم هو المعتبر شرعا، أعني الذي مدح اللهُ ورسولهُ أهلَه على الإطلاق”. والفقه في الدين كما يفهم من الحديث الشريف ليس فقها واحدا ولكنه:

1- فقه العقيدة من حيث أركانها وما يجب لله من صفات وأسماء لله تعالى وما لا يجب، وتجنب الكفر ودواعيه والشرك وأسبابه، ما ظهر منهما وما بطن.

2- فقه العبادة من حيث معرفة أركانُها وضوابطها وشروطُ الوجوب والصحة فيها..

3- فقه المعاملات من حيث صحةُ العقود ومبطلاتها، والجائز وغير الجائز منها والكسب المشروع وغير المشروع…

4- فقه المقاصد من حيث معرفة علل الأحكام وغاية الأفعال ومآلات الأعمال. والناس يتدرجون في معرفة مراتب هذا الفقه على مراتب : أما فقه العقيدة والعبادة فهما مما لا يثبت إسلام المرء إلا بهما ولا عذر لأحد في جهله أو العجز والتقاعس عن طلب من يعلمه إياهما ولو اضطر إلى السفر إلى من يعلمه واستئجاره. أما فقه المعاملات فهو سبيل لتحصيل الطيب من الأموال والثمرات، وتجنب الخبيث من العمل في التجارة والصناعة والفلاحة والغراسة مما هو معلوم مما نبه الشارع على تجنبه ونهى عنه وحرمه. أما فقه المقاصد فهو مما خص الله به أولي العلم المتفرغين له والدارسين له. والناس يأخذون من الدين بقدر فقههم فيه وبقدر ما تعلقت به هممهم، وأخلصوا نياتهم. إن غياب هذا الفقه عن أنفسنا وممارساتنا اليومية أورثنا ما نحن فيه، وما نشكو منه من مشاكل نفسية وأخلاقية، أسرية واجتماعية في الشباب والمرأة والرجل على حد سواء ما لا سبيل إلى التخلص منه إلا بالعود المحمود المصحوب باليقين إلى الفقه بالدين. ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال صلى الله عليه وسلم : ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) فالخير كل الخير، والسلامة كل السلامة والصلاح كل الصلاح في ذلك الفقه، وهو ما ينبغي أن نلزم أنفسنا طلبه قربة لله جل وعلا وصلاحا للأحوال. فلن يفيدنا إلقاء اللوم على الآخرين مهما كان دورهم في تقصيرنا وتهاوننا في أمر الدين وفي تعليم أبنائنا مبادئه، وصدق الله العظيم {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم}(الشورى: 42) وأي مصيبة أعظم ممن نحن فيه؟ وحيث إن الله يريد خيرا للمتفقه في الدين فلنعلم أنه خير شامل وجامع وعام، يصل إلى المتفقه وإلى من فقهه وإلى من حضر مجلسهما، وإلى من سعى إلى ذلك وحرص عليه وأنفق من ماله في سبيله إيمانا واحتسابا. فليس بعد قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قول أصح وأثبت وأسلم من ذلك. وأخيرا، فمن الدين معرفة الدين، {وإن الدين عند الله الإسلام}(آل عمران : 19) {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}(آل عمران : 85)، وأول شرط للقبول : العلم بالدين، وإذا غاب عنا العلم بالدين أو غيبناه ولم نحكمه في أمورنا، فماذا نعرف إذن عن هذا الدين الذي ندين به؟ وما ذا يكون جوابنا لو سئلنا : لماذا أنت مسلم وليس معك أو عندك علم به وبأصوله؟.

د. محمد علوي بنصر
———
1- الموطأ كتاب : الجنائز : 241 والبخاري ومسلم : كتاب القدر
2- رواه البخاري في كتاب العلم وكتاب الجهاد ومسلم في كتاب الزكاة.
3- رواه البخاري في كتاب العلم باب من يرد الله به خيرا.
4- رواه ابن عبد البر في التمهيد 1/54 الترغيب للمنذري 1/41.
5- أخرجه ابن ماجة في المقدمة 1/79.
6- م. س.
7-أخرجه أبو داود والترمذي في كتاب العلم.
8- فتاوى الرسول 3/118.
9- رواه الطبراني في الكبير 11/95.
10- أخرجه البخاري ومسلم.
11- رواه الحكيم الترمذي في نوادره 1/195.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>