إسهام النحو في خدمة القرآن الكريم وعلومه


تـمـهـيـد : يعد النحو العربي من أهم العلوم اللغوية، وأكثرها تعبيرا عن قدرة النحاة المعرفية ومنهجهم في النظر والبحث العلميين، إذ له الأسبقية في استكشاف أسرار العربية، ومعالجة النصوص الشرعية بغية توظيفها وتنزيلها على الواقع العملي، لذا كان النحو أولى ما تجنح إلى تحصيله الهمم العالية وأحق ما وجب صرف الجهود والأخذ بعنانه، لأنه أصل العلوم كلها وسند كل المعارف في تحققها، ومن ثم اعتبرت معالجته مدخلا ضروريا لقراءة العلوم الإسلامية المختلفة ومعرفة طرائقها في التحليل والدراسة .
1- منزلة القرآن الكريم ومكانته : لقد شكل القرآن الكريم ولا يزال مرتكزا معرفيا هاما في العربية، حيث يمثل المعجزة البيانية، ونلتمس فيه الطاقات التعبيرية الكامنة في الألفاظ والتراكيب اللغوية، مما جعل علماء العربية من نحاة وبلاغيين ومفسرين وغيرهم يحدبون إلى هذا العطاء الجديد يجنون ثماره، فاتخذوا النص القرآني أهم مادة دارت حولها دراستهم بوصفه نصا سماويا وتشريعيا ولغويا وأدبيا. وكان طبيعيا أن يوجه العلماء كل عنايتهم إلى الذكر المحفوظ، وأن ينظروا إليه نظرة فاحصة منذ وقت مبكر فعكفوا على جمعه وتدوينه كما راحوا يتدارسون أسباب نزوله وتشكيله، حتى إذا أطل القرن الثالث الهجري كان التوجه نحو لغة القرآن ومعاني مفرداته وسيرورة ألفاظه وكان على رأس هذا التوجه جهابذة اللغة وفحول العربية وفي مقدمته النحاة .
2- علاقة النحو بالنص القرآني : ارتبط النحو العربي في بداية الدعوة الإسلامية بفهم القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية وحمايتها، شأنه في ذلك شأن العلوم الإسلامية الأخرى، إذ ترجع نشأته إلى خشية المسلمين على القرآن الكريم من مخاطر اللحن والتحريف(1)، حيث ظهر النحو لمعالجة ظاهرة لغوية بدأت تزحف على السلوك اللساني العربي، هي ظاهرة اللحن، ذلك أن خطورة اللحن على العربية كان عاملا(2) أساسيا في نشوء علوم عربية عديدة ومنها علم النحو وعلم الصرف، من هنا اعتبر النحو محاكاة كلام العرب واتباع نهجهم في ما قالوه من الكلام الصحيح، وسمي نحوا لأن المتكلم ينحو به نهج كلام العرب، وهذا ما عبر عنه ابن جني -وهو يحدد بدقة مفهوم النحو- قائلا: “هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكسير والإضافة والنسب، والتركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل العربية بالعربية في الفصاحة”(3). أما عن علاقة النحو بالقرآن الكريم فتظهر في أن فهم القرآن مرتبط بمعرفة النحو لأن به يتم إحكام المعنى وتحديده، وهو ضروري في تفسير القرآن الكريم، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى (ت660 هـ): “من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم “، وقال أيضا :”لا أسأل عن مسألة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها من قواعد النحو”(4). لقد كانت أول غايات النحو هي فهم القرآن الكريم ومقاصده ومعانيه، ولا أحد ينكر مدى مساهمة النحاة في خدمة النص القرآني بالوقوف على مظاهر الإعجاز فيه؛ ويدعم هذا الأمر صاحب الدلائل بدعوته إلى تحصيل ملكة النحو حتى لا تنغلق النصوص من القرآن الكريم على الفهم(5)، وأهمية النحو تكمن في إبانة الفوارق بين المعاني، ولهذا حث العلماء على الأخذ بأسباب هذا العلم متكاملا، فهذا ابن خلدون، وهو يتحدث عن علاقة النحو بعلوم الشريعة يقول(6) “إن مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتهم من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة”. وتكاد تكون موضوعات علم النحو وأبوابه المتكاملة مطلبا واجبا على المفسر، يتوسل بها لفك مقفلات النصوص، وتجلية الأغراض الكامنة في كلام الله تعالى. إن فهم النص القرآني متوقف على معرفة علوم اللسان العربي لأنه به نزل، ولذلك فالمفسر ملزم بمعرفة النحو لأن بدونه قد يضل الطريق ولا يصل إلى القصد، بل يشترط السيوطي(7)(ت 911هـ) على المفسر جملة من العلوم ومنها : اللغة،النحو، التصريف، الاشتقاق، علم المعاني،البيان، البديع، القراءات، أصول الدين، أصول الفقه ..الخ
خــاتـمـة : إن ما خلفه لنا علماء النحو وغيرهم من أعمال في دراسة القرآن تستحق الاحترام والتقدير، ويمكنها أن تضاهي النظريات اللغوية المعاصرة بحق لأن دراساتهم دارت حول المعنى والفهم والتحليل وأصبح لزاما علينا اليوم الإفادة منها ؛ ذلك أن النحو يحظى بأهمية كبرى، ويحق لنا أن نعتبره أبا لعلوم، لا لأنه علم قواعد فحسب، ولكن لأنه علم لخواص الكلام وتأليفه، وآلة لسبر أسرار البيان وتنسيقه، فضلا عن كونه علما قرآنيا استمد بقاءه من سحر العبارة القرآنية حافظا ومحللا ومفسرا.

د. محمد الغريسي
——–
1- يرى الجاحظ أن الخطأ في القران أضر من الخطأ في غيره
2- عبده الراجحي، النحو العربي والدرس اللغوي الحديث، ص: 11
3- الخصائص، ج1، ص: 34
4- أبو القاسم الزجاجي، مجالس العلماء، تحقيق سعيد الأفغاني وعبد السلام هارون 1962، ص: 64
5- ينظر عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز ص:23
6- ابن خلدون المقدمة، دار الجيل بيروت ص: 604
7- السيوطي : الإتقان في علوم القرآن، ج4، ص: 185وما بعدها.
المصادر والمراجع :
أبو القاسم الزجاجي، مجالس العلماء، تحقيق سعيد الأفغاني وعبد السلام هارون 1962،
ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار،دار الهدى للطباعة والنشر،بيروت ط2. ابن خلدون، عبد الرحمان، المقدمة، دار الجيل بيروت .
السيوطي، جلال الدين، عبد الرحمان بن أبي بكر : الإتقان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة المصرية، بيروت 1987.
الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز ، تحقيق محمد رشيد رضا، دار المعرفة بيروت 1978.
الراجحي، عبده النحو العربي والدرس الحديث، دار النهضة العربية، بيروت، 1979.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>