في تسامع الشعر في المجالس


روى الطيالسي عن أبي نوفل بن أبي عقرب، ((قال: قيل لعائشة: أكان يُتسامع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه))(1). شرح الأربعين الأدبية24 في تسامع الشعر في المجالس روى الطيالسي عن أبي نوفل بن أبي عقرب، ((قال: قيل لعائشة: أكان يُتسامع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه))(1).
هذا رابع حديث قد يُفهم منه ذمُّ الشِّعر ورفضه، وزاوية النظر فيه مختلفة أيضا، وهو من أحاديث السنة النبوية الفعلية. وحديث الباب في قسمين: أولهما سؤال سائل، وثانيهما جواب أمنا عائشة رضي الله عنها. فأما السؤال ففيه أمور: يُفهم أولها من قوله: “أكان”، فنحن أمام سؤال عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وعادته. ويُفهم ثانيها من قوله ((يُتسامع))، وهو مبني للمجهول، وفيه دقائق: منها أنه لا يسأل عن سماع؛ بل عن تسامع، والتفاعل دال على تداول للشعر، ومشاركة، وإسماع متبادل. ومنها أن مركز السؤال هو التّسامع، وأما من يُسمع من؟ فهو غير مقصود؛ إذ حسْب السائل أن يَعلم أحصَل التسامع أم لا؟. ويُفهم ثالثها مِن قوله: ((عند رسول الله صلى الله عليه وسلم))، فطلِبَة السائل تحتمل أمرين: تداول الشعر من لدن الناس، وتسامعهم إياه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مجالسه، وسماعه صلى الله عليه وسلم الشعر، وكلا الاحتمالين وارد. ويُفهم رابعها من إطلاق لفظ الشعر؛ فالسؤال عن الشعر بغض النظر عن نوعه وحجمه، وعما إذا كان إنشاده مقصودا، أم ورد في سياق الاستشهاد والتمثل… يُمَكِّننا ما سبق مِن أن نُعيد صياغة السؤال بشكل أكثر بسطا وتوضيحا، وذلك على هذا الشكل: أكان من عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبادلوا إنشاد الشعر في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟، وأكان النبي صلى الله عليه وسلم يَسمع الشعر في مجالسه؟ وتُمكِّننا إعادة صياغة السؤال من ملاحظة أن موضوعه ليس حكم الشعر؛ بل تسامع الشعر في المجالس النبوية، وهذا أول ما يُخرج حديث الباب مِن أن يكون حديثا عاما في ذم الشعر، ومِن ثم فهو يقصره فقط على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه. وأما القسم الثاني وهو جواب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فأول ما يلاحظ أن ذلك الجواب قد تضمن ثلاث مسائل: أولها ((كان))، فنحن أمام جواب عن العادة النبوية. وثانيها ((أبغض الحديث)) فنحن أمام لب الجواب، وهو أن تسامع الشعر يرد في مقدمة ما يُبغض من حديث، ولنا عودة إلى هذا. وثالثها أن ذلك البغض مُسنَد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبناء على العناصر الثلاثة السالفة الذكر يُفهم من الجواب أن تسامع الشعر حديث يتقدم بغضه عند النبي صلى الله عليه وسلم على بُغْضه غيرَه من الأحاديث، وهو ما يُفهم منه أن موضوع البغض هو تسامع الشعر، لا الشعر نفسه. والذي يظهر لي وتطمئن إليه النفس أن حديث الباب يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد لمجالسه أن تكون مجالس علم لا مجالس شعر، ومجالس تلاوة للقرآن الكريم وتدارسه وتعلم أمور الدين لا تناشد الشعر وتسامعه، ومن ثم خرج أن يكون مقصود أم المؤمنين عائشة حُكم الشعر، وخرج أن يكون سماع الشعر نفسه خارج تلك المجالس، وخرج أن يكون التمثل بالشعر… والذي فهمناه آنفا لا يستند إلى فهم ألفاظ الحديث وعلاقاتها فقط، بل يستند كذلك إلى ما لدينا من نصوص أخرى في الموضوع، وحسبنا من ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نفسها في ذلك، وحسبنا من هذا كذلك ثلاثة أحاديث: فقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشق بالنبل))…. وقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هجاهم حسان فشفى واشتفى))…))(2). وروت الحديث: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيكَ بالأخبار مَنْ لمْ تُزَود))(3). وروت الحديث: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))(4). والسؤال هو: إذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي التي روت تلك الأحاديث، وهي صريحة في أن أمر الشعر محمود: إنشاء، وإنشادا، وتمثلا، وسماعا؛ بل روت أيضا أنه كان يضع لحسان منبرا في المسجد ينشد عليه ما قاله من شعر في هجاء مَن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفبعد هذا يقال: إن قولها: ((كان أبغض الحديث إليه)) دال على ذم الشعر؟! لا ريب أن الأمر ليس كذلك حتى يكون جوابها منسجما مع ما روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تعرفه هي عن أحواله، فلم يبق إلا أن يُفهم من حديث الباب الفهم الذي فهمناه. والفهم الذي فهمناه هو أن هناك مجالس عالية ينبغي أن تُنزه عن أن تكون فضاء لتسامع الشعر وتناشده، وأن أمر البغض مرتبط بذلك، وأما الحكم العام، والتمثل وتناشد الشعر وتسامعه في غير ذلك؛ فمما لا علاقة لحديث الباب به.

د. الحسين زروق

———–

(1)- مسند الطيالسي، حديث رقم 1490. علق عليه محققه بقوله: ((إسناده صحيح)). وأورده الهيثمي في(مجمع الزوائد، 8/119)، وقال:(((رجاله رجال الصحيح)).

(2)- صحيح مسلم، 16/41، حديث رقم 2490، ك.فضائل الصحابة، ب.فضائل حسان…

(3)- مسند أحمد، 17/208-209، حديث رقم 23905، وقد رواه الهيثمي في(مجمع الزوائد: 8/128)، وقال: ((رجاله رجال الصحيح)).

(4)- صحيح سنن أبي داود، 4/204، حديث رقم 5015، ك.الأدب، ب. ما جاء في الشعر. وقد علق عليه الألباني بقوله: ((حسن))، كما أورده في الصحيحة، حديث رقم 1657. ورواه الترمذي في سننه، ، حديث رقم 2486، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)).

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>