التنازع في اتباع سبيل الرشاد


 

الإنسان بفِطرته التي فطره الله عليها يأبى سبيل الضلال والانحراف، ويحبّ -ولو في دواخله- السبيل السوي النقي المستقيم، ولذلك جاءت الرسل لإحياء هذه الفطرة وتزكيتها، مويَّدة في ذلك بالوحي الصريح، وناطقة بالبيان الفصيح، أن سبيل الرشاد والفلاح هو سبيل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن سار على هديهم من الدعاة والمؤمنين الصادقين الصابرين.

فهذا مؤمن آل فرعون الذي اقتنع بدعوة النبي موسى عليه السلام، ينادي قومه ناصحاً مقتديا بالنبي المرسل : {يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد}(غافر : 38)ثم يذكّرهم بأن هذه الدار فانية وأن الآخرة هي الباقية فيقول :{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}(غافر : 39) وبالطريقة ذاتها يدْعو معاذ بن جبل رضي الله عنه أهل اليمن حينما قدم إليهم فيقول مستلهما ما ورد في أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل مكة : ((ألا إني رسُولُ رسولِ الله إليكم فاتبعوني أهْدِكم سبيلَ الرشاد، وإنما هو الله وحده، والجنة والنار، إقامة ولا ظعن، وخلود ولاموت))(مسند الشاشي رقم الحديث 1333).

وإذا كان الرشاد هو السبيل الذي يدعو إليه الرسل والأنبياء وورثتهم من العلماء والدعاة، فإن دعْوة الشياطين ومن تبعهم من الطغاة الضالين والمرَدة الغاوين، لابُدّ أن تكون دعوتهم إلى سبل الغيّ والضّلال. لكنهم يأنفون من أن تكون دعوتهم كذلك، ولذلك صرح رائدُهم في هذا الباب فرعون وهو يحاجج موسى عليه السلام وينبه قومه بأن هو المنقذ لهم من الضلال فقال بِكل استكبار وتجبُّر {ماأُريكُم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرّشاد}(غافر : 29).

وبتغيير فرعون لمفهومي الرشاد والغي، بتغيير المصطلحين الدالين عليهما بشكل صحيح مَهَّد الطريق لفوضى المفاهيم، وخاصة في مجال الإصلاح والبناء، حتى إن المنافقين أنفسهم تبنوا نفس المنطق كما يظهر من قول الله تعالى عنهم : {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الا رض قالوا إنما نحن مصلحون}(البقرة : 10).

ومع مرور الزمن، وكثرة الفساد في الأرض طغى اللعب بالمفاهيم ومصطلحاتها، وخاصة مع تطور وسائل الإعلام، فأصبح العديد من المفاهيم مقلوبة الدلالة مع قلب التعابير الدالة عليها، ومن ثم غدا الالتزام بتعاليم الدنيا تزمتا، والحياءُ عقدة، والسِّتر -وخاصة بالنسبة للنساء- تخلفا، في حين أصبح الإقبال على المحرمات تفتّحاً، وتقليدُ المستعمر تحضُّراً، وهكذا.

إن معركة المصطلحات معركة حضارية بالدرجة الأولى إذ باستقامتها يتبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال والصلاح من الفساد والحق من الباطل والتقدم من التخلف والبناء من الهدم.

فيا ليت الناس ينتبهون إلى الأمر، ويدركون أن إدراك الحقيقة مبنيٌّ على إدراك حقيقة المفاهيم، التي هي الأخرى مبنية على الاستعمال السليم للمصطلحات والألفاظ.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>