ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَكَلَّمُ بِالْقَوْلِ الْموجَزِ الْقَليلِ اللَّفْظِ الْكَثيرِ الْمَعاني، وجَزَمَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ بِأَنَّ الْمُرادَ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنُ، بِقَرينَةِ قَوْلِهِ “بُعِثْتُ”. والْقُرْآنُ هُوَالْغايَةُ في إيجازِ اللَّفْظِ واتِّساعِ الْمَعاني .
قالَ ابْنُ حَجَرٍ: والرّاجِحُ عِنْدَ الْبُخارِيّ أَنَّ الْمُرادَ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ ذلِكَ بِلازِمٍ؛ فَإِنَّ دُخولَ الْقُرْآنِ في قَوْلِهِ : “بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ” لا شَكَّ فيهِ، وإِنَّما النِّزاعُ هَلْ يَدْخُلُ غَيْرَهُ مِنْ كَلامِهِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ؟ قالَ أَبوعَبْدِ اللهِ: وَبَلَغَني أَنَّ جَوامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الْكَثيرَةَ، التي كانَتْ تُكْتَبُ في الْكُتُبِ قَبْلَهُ، في الأَمْرِ الْواحِدِ والأَمْرَيْنِ ونَحْوذلِك(1) .
وقد ذَكَرَ عُلَماءُ البلاغَة(2) أنّ الكلامَ الموجَزَ اعتنتْ به فُصَحاءُ العَرَبِ وبُلَغاؤُها؛ فإنهم كانوا إذا قَصَدوا الإيجازَ أتَوا بألفاظٍ استغْنَوا بواحِدها عَن ألفاظٍ كَثيرةٍ، كَأدَواتِ الاسْتِفهامِ والشَّرْطِ وغَيرِ ذلِكَ، فَغالبُ كَلام العَربِ مَبنيٌّ عَلى الإيجازِ والاخْتِصارِ وأداءِ المَقْصودِ مِنَ الكَلام بأقلِّ عِبارةٍ .
ولكنّ الإيجازَ في أعلى مراتِبِه، ما نَطقَ به القرآنُ الكَريمُ في الآيَةِ الواحِدةِ والآيتينِ وبَعضِ الآيات ؛ فإن الآيةَ الواحِدةَ تقومُ في بُلوغِ الغَرضِ وتَوفيةِ المقاصدِ بِما لا تَقومُ به الكُتبُ المُطوَّلةُ والأدلَّةُ القاطِعةُ، فمَن أرادَ أن يَعْرِفَ جَوامعَ الكلمِ ويتنبّهَ إلى فَضلِ الإعجازِ وكفايةِ الاخْتصارِ والإيجازِ، فليتأمّلْ قولَه تَعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة : 179). لقدْ عُبِّرَ عن هذا المَعنى بألفاظٍ أخْرى أكْثرَ عَددًا، ولكنّها لا تَرْقَى إلى بَلاغةِ الإيجازِ القرآنيّ؛ فَهذا المَعنى القرآنيُّ لا يُمْكنُ التّعْبيرُ عَنه إلاّ بألفاظٍ كَثيرةٍ؛ لأنّ مَعناه أنّه إذا قُتِلَ القاتِلُ امتَنعَ غيْرُه عَن القَتلِ فأوْجبَ ذلك حَياةً للناسِ، ولا يُلتفَتُ إلى ما وَردَ عَن العَربِ منْ قَولهم : ((القَتلُ أنْفى للقَتْلِ)) فإنَّ مَن لا يَعلمُ يظنُّ أنّ هذا على وزنِ الآيةِ، وليس كذلك، بل بينهما فرقٌ من ثلاثةِ أوجهٍ : الأول أنّ “القصاص حياة” لفظتان، و”القتل أنفى للقتل” ثلاثةُ ألفاظٍ، الوجه الثاني : أنّ في قولهم “القتل أنفى للقتل” تَكريرًا ليس في الآية، الثّالث أنّه ليس كلُّ قتلٍ نافيًا للقتلِ إلا إذا كان على حُكمِ القِصاصِ(3) فلفظُ القرآنِ الكريم لفظٌ وجيزٌ مُعجِزٌ مُخْتَصرٌ، وغايةٌ في الإيجازِ والإيضاحِ وحُسْنِ البيانِ
ومِنْه قَولُه تعالى : {إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسانِ وإيتاءِ ذي القُرْبى، ويَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ، يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذكَّرون}( النحل : 90)، وَعظَ في ذلك بألطفِ مَوعظةٍ، وذَكَّرَ بألطفِ تَذكِرةٍ، واسْتَوعَبَ جَميعَ أقسامِ المَعروفِ والمُنكرِ، وأَتى بالطِّباقِ اللَّفظيِّ والمعنويِّ، وحُسنِ النَّسَق وحُسنِ البَيانِ والإيجاز، وائتلافِ اللّفظ ومعناه… وقولُه تَعالى: {(إنَّ الذينَ قالوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقاموا تَتَنَزَّلَ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ}(فُصِّلت : 30)، “اسْتَقاموا” كلمةٌ واحدةٌ تُفْصِح عن الطّاعاتِ كلِّها في الائْتِمارِ والانْزِجارِ .
وقَولُه تَعالى: {أَلاَ إنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم ولا هُمْ يَحْزَنون}(يونس : 62)، فقد أدْرَجَ فيهِ إقبالَ كلِّ محبوبٍ عليهم، وزوالَ كلِّ مكروهٍ عنهم(4)، ولا شيءَ أضرَّ بالإنسانِ من الحزنِ والخوفِ؛ لأنّ الحزنَ يتولَّدُ من مكروهٍ ماضٍ أوحاضرٍ، والخوف يتولَّد من مكروه مُسْتَقبَل، فإذا اجْتَمَعا على امرِئٍ تَبَرَّمَ بِحياتِه. والحُزنُ والخوفُ أقوى أسبابِ مَرضِ النَّفسِ، كَما أنَّ السُّرورَ والأمنَ أقوى أسبابِ صحَّتِها(5).
وقَوله تَعالى : {أَوْفُوا بِالعُقودِ}(المائدة : 1)، فهُما كَلِمتانِ جَمَعَتا ما عقدَه الله على خَلْقِه لنفْسِه، وتَعاقدَه النّاسُ فيما بينهم(6).
وقد وَرَدَت في القُرآنِ الكَريمِ عِباراتٌ كثيرةٌ جَمَعت مِنَ الإيجازِ والإعْجازِ ما جَعَلَها تَجْري مجْرى الأمثالِ المُتَداوَلَة بَينَ النّاسِ، كَقولِه تَعالى : {وَلا يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّءُ إلاّ بِأهلِه}(فاطر : 43)، وقَولِه: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَت رَهينَةٌ}(المدَّثِر : 38)، وقولِه: {كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ}(آل عمران : 185)، وقولِه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ)(الأنعام : 67)، وقَولِه : {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه}(الإسراء : 84)، وقولِه: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}(الأنعام : 164)، وقَولِه : {وَلاَ يَحيقُ المكرُ السَّيِّءُ إلاّ بِأهلِه}(فاطر : 43). فَكانَ إيجازُ البَيانِ النَّبَوِيّ وجَوامِعُ كَلِمِه مِنْ إيجازِ القُرآنِ وبَلاغتِه وجَوامِعِ كَلِمِه، يَدُلُّ عَلى ذلِكَ قَوْلُه تَعالى: {ومَا كُنْتَ تَتْلُومِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاتَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}( العَنْكَبوت : 48).
ومِنْ أَمْثِلَةِ “الموجَزِ مِن الحَديثِ وجَوامِعِ الْكَلِمِ”، حَديثُ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: ((كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنا فَهُوَرَدٌّ))(7)، وَحَديثُ : ((كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتابِ اللهِ فَهُوَباطِلٌ))(8)، وَحَديثُ أَبي هُرَيْرَةَ : ((وَإِذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ))(9)، وحَديثُ الْمِقْدامِ : ((ما مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ))(10)، وحديثُ : ((النّاسُ كإِبِلٍ مائةٍ لا يجدُ الرّجُلُ فيها راحلةً))(11)، وحديثُ: ((كَما تَكونونَ يُوَلّى عَليكُم))(12)، إِلى غَيْرِ ذلِكَ مِمّا يَكْثُرُ بِالتّتَبّعِ. وإِنَّما يَسْلَمُ ذلِكَ فيما لَمْ تَتَصَرَّفِ الرُّواةُ في أَلْفاظِهِ، والطَّريقُ إِلى مَعْرِفَةِ ذلِكَ أَنْ تَقِلَّ مَخارِجُ الْحَديثِ وتَتَّفِقَ أَلْفاظُهُ، وَإِلاّ فَإِنَّ مَخارِجَ الْحَديثِ إِذا كَثُرَتْ قَلَّ أَنْ تَتَّفِقَ أَلْفاظُهُ لِتَوارُدِ أَكْثَرِ الرُّواةِ عَلى الاقْتِصارِ عَلى الرِّوايَةِ بِالْمَعْنى، بِحَسَبِ ما يَظْهَرُ لأَحَدِهِمْ أَنَّهُ وافٍ بِهِ، وَالْحامِلُ لأَكْثَرِهِمْ عَلى ذلِكَ أَنَّهُمْ كانوا لا يَكْتُبونَ، ويَطولُ الزَّمانُ فَيَتَعَلَّقُ الْمَعْنى بِالذِّهْنِ، فَيَرْتَسِمُ فيهِ، ولا يسْتَحْضرُ اللَّفْظ، فَيُحَدِّثُ بِالْمَعْنى لِمَصْلَحَةِ التَّبْليغِ، ثُمَّ يَظْهَرُ مِنْ سِياقِ ما هُوَأَحْفَظُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّ بِالْمَعْنى(13).
———
1- انْظُرْ شَرْحَ حَديثِ “جَوامِع الكَلِمِ” في (فَتْح الباري : 12/418) كِتاب التَّعْبير : باب الْمَفاتيحِ في اليَدِ .
2- انظر : (الإعجاز والإيجاز: 15) لأبي منصورٍ عبدِ الملِكِ بنِ محمّدٍ الثّعالبِيّ (ت.429)، تح. محمّد إبراهيم سليم، مكتبة القرآن للطّبع والنّشر والتّوزيع، القاهرة، 1999، و(صبح الأعشى في صناعةِ الإنشا:2/359-360رضي الله عنه لأحمد بن عليّ القلقشدي (ت.821)، تح. د. يوسف علي الطّويل، دار الفكر، دمشق، ط.1 / 1987. و(البيان والتّبيين: 1/370) لأبي عُثمانَ عَمْرِوبْنِ بحرٍ الجاحظ (ت.255) تح. عبد السّلام هارون دار الفكر بيروت، ط.4، و(المثل السّائر في أدب الكاتب والشّاعِر: 2/117-118) لضياء الدّين بن الأثير
3- انظر التّفصيل في [المثل السّائر: 2/117-118.
4 -الإعجاز والإيجاز: 15.
5 -الإعجاز والإيجاز: 15.
6- الإعجاز والإيجاز:16.
7- ورَدَ في (صحيح مسلم: 3/1343) في باب نَقْض الأحكامِ الباطِلَة ورَدّ مُحْدَثاتِ الأمور، وفي (صَحيح البُخاري: 2/959) في باب: إذا اصْطَلَحوا عَلى صُلْح جَوْر فالصُّلْحُ مَرْدودٌ 8-
صَحيح البُخاري: 2/981) بابُ المُكاتبِ وما لا يَحِلُّ مِنَ الشُّروطِ التي تُخالفُ كِتابَ الله، وقالَ جابرُ بنُ عبدِ الله رضي الله عنهما في المُكاتبِ : شُروطُهُم بَيْنَهُم، وقالَ ابنُ عُمَرَ أوعُمَرُ : كُلُّ شَرطٍ خالَفَ كِتابَ الله فَهوَباطلٌ وإنِ اشْتَرَطَ مائَةَ شَرْطٍ. وفي البابِ أيضاً : عَن عائِشَةَ رَضيَ الله عَنها قالتْ : أتَتْها بَريرَةُ تَسْألُها في كِتابَتِها فَقالَتْ : إنْ شِئْتِ أعْطيتُ أهْلَكِ ويَكون الوَلاءُ لي، فَلَمّا جاءَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَكرَتْه ذلكَ قالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم : اِبْتاعيها فَأعْتِقيها فإنما الوَلاءُ لمنْ أعْتَقَ، ثُمَّ قامَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلى المنبرِ فَقالَ: ما بالُ أقْوامٍ يَشتَرِطونَ شُروطاً لَيسَتْ في كِتابِ الله ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطا لَيسَ في كِتابِ الله فَلَيسَ لَه وإن اشْتَرَطَمائَةَ شَرْطٍ . )
9- صَحيح مُسلِم: 2/975)، بابُ فَرضِ الحجِّ مَرةً في العُمُرِ : عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ : خَطَبَنا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقالَ: أيُّها الناس قَدْ فَرَضَ الله عَليكُم الحجَّ فحُجّوا، فَقالَ رَجلٌ أكُلَّ عامٍ يا رَسولَ الله؟ فَسَكَتَ حَتى قالَها ثَلاثاً فَقالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم لوقُلتُ نَعَمْ لَوَجَبَت ولَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثم قالَ ذَروني ما تَرَكْتُكُمْ فإنَّما أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ واخْتِلافِهِم عَلى أنبيائِهِم، فإذا أمَرتكُم بشيءٍ فأتوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُم وإذا نَهَيْتكُم عَن شيءٍ فَدَعوه .)
10 – المُسْتَدْرَك عَلى الصَّحيحَيْنِ: 4/367) : عَنِ المِقدامِ بنِ مَعدي كَرِب سِنانٍ رضي الله عنه يَقول سَمعتُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ: ((ما مَلأ آدميٌّ وِعاءً شَرّاً منْ بَطنِه، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ ثَلاثُ أكلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَه فإنْ كانَ لا محالَةَ فثلُثٌ لِطَعامِه وثُلثٌ لِشَرابِه وثُلثٌ لِنَفَسِه)). قالَ الحاكِمُ : هذا حَديثٌ صَحيحُ الإسْنادِ ولَمْ يُخْرِجاه).
11- صحيح مسلم: 4/1973) : بابُ قَولِه صلى الله عليه وسلم : النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تَجِدُ فيها راحِلَةً . عن ابن عُمَرَ قالَ: قالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم : ((تَجِدونَ الناسَ كَإبلٍ مِائةٍ لا يَجدُ الرَّجلُ فيها راحِلَةً)).
12- مُسْنَد الشِّهاب: 1/336) لأبي عبد الله القاضي القضاعي مراجعة: حمدي بن عبد المجيد السّلفي، ط.2/ بيروت 1407-1986. و(الفِرْدَوْس بمأثورِ الخِطاب: 3/305) لابْنِ شيروَيْهِ الدّيلميّ الهمذاني (ت.509)، تح. السّعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط.1، 1986
13- اُنْظُرْهُ بِنَصِّهِ وبِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصيلِ في: [فَتْح الْباري: 12/261-262) كِتاب الاعتصام . وانظر التّحقيقَ في هذِه المسألة كِتابَ : (تاريخ الاحْتِجاج النَّحْويّ: 318-…).