قراءة في كتاب : العرب والانتحار اللغوي للدكتور عبد السلام المسدي


 

إعداد د. الطيب الوزاني

 

العرب والمأزق التاريخي للغة العربية (2)

 

 

في هذا العدد نواصل محاولة تقريب مضامين الفصل الثاني الذي عنونه الدكتور عبد السلام المسدي ب”المأزق التاريخي” (ص.ص:19-37) حيث يواصل الدكتور حديثه عن واقع اللغة العربية في السياق السياسي والثقافي المحلي والعالمي ويبين المأزق التاريخي التي آلت إليه اللغة العربية، فعن أي مأزق تاريخي يتحدث ؟ وما طبيعة مشكلاته؟ وما هي الحلول التي يقترحها الكاتب لخروج العرب بلغتهم من هذه المأزق؟

أولا في طبيعة المأزق التاريخي وعناصره

يرى المؤلف أن “اللغة العربية ـ كما ازدهرت وكما وصلتنا مع فجر نهضتنا ماضيا ـ قضية فكرية غزيرة الموارد، واللغة العربية هي الآن وكما تتعاطى أمرَها مؤسساتُ المجتمع مسألة تربوية خلافية، أما اللغة العربية من منظور استشراف مستقبلها فقضية حضارية كبرى ترتد إلى إشكال سياسي بالغ الخطورة والتعقيد، لأن الشأن السياسي لم يعد شأنا قطريا أو شأنا إقليميا، بل غدا شأنا دوليا بالضرورة، يندرج ضمن استراتيجية الخيارات العالمية الكبرى” إن الوضع الذي آلت إليه اللغة العربية ليس هو الوضع الذي كان ينبغي لها أن تتبوأه؛ إن هذه اللغة “لو أنصفها التاريخُ وأهلُُها لكان من المفروض أن تكون هي أداةَ التداول في كل ما يتصل بمجالات الفكر والثقافة والمعارف، وبكل حقول التسيير والتوجيه، وكذلك بكل حقول الإبداع والفنون” وبناء على هذا يصرح الكاتب ب” أن وضع اللغة العربية في هذه المرحلة التاريخية وضع حرججدا”( ص. 23)، كما أن مأزق اللغة العربية لا يرجع إلى تهديد اللغات الأجنبية الأخرى لها، وإنما يرجع بالأساس إلى تهديد العاميات واللهجات “فاللغات الأجنبية فيما مضى كانت عدوا أيديولوجيا يوم كان الصراع الحضاري معتمدا على الاكتساح العسكري، وكانت المذهبيات رأس الحربة في المعركة أما اليوم ـ في صراع الكونية الثقافية بعباءة الأممية السياسية والعولمة الاقتصادية ـ فإن اللهجات المهدِّدة لبقاء اللغة القومية الفصحى هي العدو الثقافي الأشرس”(ص.35- 36)، إذن فكيف حصل هذا المأزق التاريخي؟ وكيف صارت العاميات (البنات) تهدد أمها العربية الفصيحة؟

أ- السياق التاريخي لأزمة اللغة العربية :

يركز المؤلف في هذا المجال على سياقين : سياق قديم وسياق جديد؛ فالأول تولد مع حركة الاستعمار والاستشراق؛ فالفكر الاستعماري كانت وظيفته تسويغ الاستعمار وتصوير عمله بأنه شريف ونبيل ومتحضر وأنه يقوم بوظيفة ترقية الشعوب من البدائية إلى مراتب الحضارة.

أما الفكر الاستشراقي(الحليف الحقيقي للاستعمار) فانصبت اهتماماته على اللهجات العربية.. بغية تنميطها وكشف أنساقها إلى أن تَهيأ كل شيء لإطلاق الدعوة إلى نبذ العربية وإحلال بَناتها محلها، وكان المثقال الأكبر في الحبكة الفكرية والاستدراج الذهني هو القياس المتعجل بين ما حصل للغة اللاتينية وما يجب أن يحصل للغة العربية، وكانت الأشياء تقدم وكأنها قانون من قوانين التاريخ الصارمة”(ص.31-32) ويدخل في نظر المؤلف ضمن دائرة المستشرقين كل من تأثر بهم وحمل دعوتهم من المفكرين العرب كما سيأتي.

أما السياق الجديد فهو سياق العولمة والنظام العالمي الجديد في كونيته الثقافية، فهذا النظام ـ كما يقول المسدي ـ ” لابد أن يتضمن مشروعا ثقافيا لغويا بلا أي تشكك.. فاللغة هي الحامل الأكبر للمنتج الثقافي، وهي الجسر الأعظم للمسوق الإعلامي وهي السيف الأمضى في الاختراق النفسي، وعليها مدار كل تسلل إيديولوجي أو اندساس حضاري، فدعاة الأممية وأنصار العولمة.. يعلمون علم اليقين أن اللغة هي أم المرجعيات: في تشييد المعمار الحضاري وفي بناء صرحه الثقافي”(ص29-30)، بل إن الكونية الثقافية عند المؤلف في أصلها كونية لغوية لذلك تجده يقول: “وليس من عاقل يسلم باكتساء النظام العالمي الجديد ثوب الحرب الاقتصادية والثقافية إلا وهو يسلم تسليما طوعيا بأنه ـ على تعدد أربابه ـ حامل لبذور الصراع اللغوي المحتدم”(ص.30)، لذلك ف”المعركة الحضارية هي صراع بين الثقافات، وتطاحن بين الهويات، وتناحر علىالقناعات، ثم هي قبل ذلك كله وبعد ذلك كله، تقاتل على مراكز النفوذ اللغوي”(ص.28) إن “النظام العالمي ما فتئ يكرس سطوة الغالب على المغلوب مرسخا في كل لحظة سلطان اللغة الأقوى”، فحقيقة الحرب الثقافية:” تفتيت القوميات المتماسكة، وخلخلة الثقافات الراسخة، وإرباك اللغات ذات المتانة الرمزية بدفعها نحو التشظي” (ص.28)

إن تضخم خطر هذه الكونية الثقافية هو ما يجعل ـ في نظر المؤلف ـ “القضية اللغوية في واقعنا العربي الراهن قضية مصيرية بلا مبالغة وقضية حيوية بلا مجاز”( ص28)، لكن ما هي مبررات الحملة على العربية؟

ب – مبررات الحملة على العربية :

هنا يقف المفكر اللساني التونسي عند بعض الأسباب الموضوعية وعلى رأسها الخوف والقلق الذي ينتاب صانعي القرار الدولي ومهندسي خريطة الاستراتيجية الكونية إلى حد الفزع من احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور فضلا عن المستقبل البعيد، فاللسان العربي هو اللغة القومية لحوالي 337 مليون في إحصاء 2007، وهو أيضا مرجعية اعتبارية لأكثر من 950 مليون مسلم غير عربي، ثم إن اللسان العربي حامل تراث، وناقل معرفة، وشاهد حي على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية والطبية والفلسفية وهو بهذا الاعتبار يخيفهم أكثر مما يخيفهم اللسان الصيني أو الهندي، فضلا عن أن اللغة العربية حاملة رسالة حضارية روحية، ومما يزيد من هذه المخاوف بناء على هذا المعطى الأخير هو الحضور المتكاثر للجاليات العربية الإسلامية في الدول الغربية حيث أصبحوا مواطنين في تلكالبلدان لهم حقوقهم الدستورية في اللغة وفي المعتقد، إضافة إلى هذا يذكر المؤلف سببا آخر هو ألصق بالحقيقة العلمية القاطعة وأعلق بمعطيات المعرفة اللسانية الحديثة وهو أن اللسان العربي هو اللسان الطبيعي الوحيد الذي استطاع أن يعمر حوالي سبعة عشر قرنا محتفظا بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، وهذه الحقيقة العلمية والميزة في صمود اللسان العربي بقدر ما يبهج العلماء المخلصين بقدر ما يغيظ سدنة التوظيف الأممي ويستفز دعاة الثقافة الكونية بعد اكتشاف العلماء ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي، والحقائق النحوية، والبناء المنطقي الصوري الذي انتهى إليها النحو العربي( ص.25- 26)

ثانيا في دور العرب في تكريس هذا المأزق

إن الدكتور المسدي في معرض تحليله للمأزق التاريخي للغة العربية يلقي باللائمة كثيرا على العرب من جهات عدة :

فمن جهة أولى فإن أصحاب القرار يتبنون حول المسألة اللغوية خطابا يستوفي كل أشراط الوعي الحضاري، ويأتون سلوكا يجسم الفجوة المفزعة بين الذي يفعلونه والذي قالوه.(ص.19)

ثانيا أن الحقائق العلمية والمعرفية “ليس لها لدى ساسة العرب من الوزن ما لها لدى ساسة العالم المتطور”.( ص.19) وهو ما عبر عنه في الفصل الأول بالحقيقة الغائبة عن الوعي العربي.

ثالثا تأثر بعض المفكرين العرب بالفكر الاستشراقي في الدعوة إلى العامية ف”بعض الأغرار من العرب… كانوا متسارعين إلى إرضاء أساتذتهم من الغربيين(يقصد المستشرقين) متهافتين إلى استدرار الشهادة منهم بأنهم نجباء وبأنهم أوفياء، ولكنهم لم يخلصوا للعلم فخذلهم العلم… فتنادوا باللغة الثالثة وتمادحوا بلغة الكادحين، وتعانقوا بقميص الواقعية، وما علموا أن في ندائهم محقا لهويتين: هوية اللغة العربية الفصحى وهوية اللهجات العامية التي تمثل كل واحدة منها منظومة لسانية متكاملة” (ص.32-33)، لذلك فالمؤلف يحمل المثقف مسؤولية القضاء على العربية بحمله وزر تلهيجها وفي هذا يقول:”إن اللغة العربية بما هي حامل للهوية الثقافية، وضامن لسيرورة الذات الحضارية، لا يتهددها شيء مثلما يتهددها صمت المثقف وهو ينظر إلى الزحف اللهجي يكتسح مجالاتها الحيوية ولاسيما في الإبداع الثقافي” (ص.36، وص.35 أيضا)

ثالثا في مقترحات الحلول للخروج منه

إن حديث المؤلف عن المأزق التاريخي للغة العربية بقدر ما تخلله الوصف والتحليل والتعليل بقدر ما تخللته أيضا رغبة صريحة في إصلاح الوضع واقتراح بدائل وخطوات نظرية وعملية لخروج العرب بلغتهم نحو بر الأمان، ومن ذلك:

- تقوية الجبهة الحضارية والثقافية للذات: يقول الدكتور المسدي ” ومما لا ريب فيه أن الحقائق التاريخية الجديدة جمع ينسلك في واحد، ليس للعرب فيها خياران، إنما هو خيار فريد: أن يقووا جبهتهم الحضارية الداخلية، التي هي جبهة الذات التاريخية، وذلك بنهضة فكرية قوامها العقل الصارم، وساعدها المتين حرية في الرأي وفي التعبير والتواصل القائم على النقد المسؤول، وأن يقووا جبهتهم الثقافية بأن يَعُوا الوظيفة الجبارة التي تؤديها اللغة القومية ولن يؤديها بديل آخر من البدائل على وجه القطع والإطلاق(ص.28).

- ربط اللغة بالتنمية ل”أنه من المتعذر على أي مجتمع أن يؤسس منظومة معرفية لغوية تكون شاملة مشتركة متجذرة حمالة للأبعاد المتنوعة فكرا وروحا وإبداعا من غير اللغة. فاللغة هي الحامل الضروري المحايث لكل إنجاز لغوي. والذي له ذاك القدر الأدنى من الرَّوِية والرجحان عليه أن يعرف أن اللغة ـ بما هي موضوع للتعليم وللبحث وللإنتاج ـ ركن أساسي في كل مشروع اقتصادي”. (ص.21).

-الاقتناع بضرورة بناء مشروع لغوي ومنظومة تنموية جوهرها اللغة القومية: فهذا هو المخرج من المأزق التاريخي للعرب مع لغتهم، لذلك يتساءل الدكتور بمرارة :” متى يسلم أصحاب الأمر في وطننا العربي بكل أطراف المعادلة: أن السيادة الاقتصادية رمز للسيادة السياسية، وأن السيادة السياسية مستحيلة بدون سيادة ثقافية لغوية، وأن امتلاك لغة الآخر سلاح ليس له اعتبار تقديري في السياسة والاقتصاد والثقافة إلا إذا استند إلى مرجعية لغوية قومية تعين الأنا على أن يقف ندا للآخر؟ ولكننا ـ كما هو بادٍ على السطح الدولي ـ أمة بلا مشروع لغوي، نحن مجتمع يريد أن يبني منظومة تنموية وهو يغمض العين على مأزقه اللغوي المكين”(ص.21-22)

وباختصار ف” إنه لا مجال أمام العرب للانخراط بكفاءة في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة.

ولا ثقافة بدون هوية حضارية

ولا هوية بدون إنتاج فكري

ولا فكر بدون مؤسسات علمية متينة

ولا علم بدون حرية معرفية

ولا معرفة ولا تواصل ولا تأثير بدون لغة قومية تضرب جذورها في التاريخ، وتشارف بشموخ حاجة العصر وضرورات المستقبل ” (ص.37).

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>