مقالات متجددة


 

مـــن مـنـافـع الـحـج

 

د. محمد ولد سيدي عبد القادر الأمسمي الشنقيطي

 

قال تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم}(الحج :27 – 28).

يبدو من خلال هذه الآية الكريمة أن الله عز وجل جعل في الحج منافع كأنه لم يأمر به إلا لتحصيلها؛ لما تقتضيه اللام في قوله تعالى: (ليشهدوا) من التعليل، ثم هي منافع للحاج خالصة لا يشركه فيها غيره كما يدل عليه التعبير ب (لهم). وقد نكر المنافع لتعم كل منافع الحج الدنيوية والأخروية ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والتجارات(1).

وقال الزمخشري :”نكر المنافع؛لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات،وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على جميع العبادات لما شاهد من تلك الخصائص(2)”.

وإنك لتعجب من هذا الأسلوب الحكيم وهذا الانتقال من تصور حال الحاج وهو أشعث أغبر قد أتى من فجاج الأرض ليفاجئك السياق قبل أن تتساءل عن سر عبادة تكلف هذا العنت الظاهر بأن هذه المشقة لا تفي بما جعل في هذه العبادة من منافع دنيوية وأخروية تضرب لها أكباد الإبل فلا يفي ذلك بشكر التوفيق للخروج لها والاصطفاء للتوفيق لأدائها والفوز بمنافعها الجمة.

ومن ثَم فإنه لا يستطيع أحد تعداد منافع عبر عنها الخالق بهذه الصورة العامة ولم يحصرها ولا حصرها رسوله صلى الله عليه وسلم في منافع محددة معلومة، وإنما يتم للمفسر الدارس الكشف عن تلك المنافع بقدر ما يفتح الله له من فهم في كتابه، ليبقى النص الكريم على عمومه (ليشهدوا منافع لهم) يغترف منه كل وارد بحسب دلوه وسقائه. ومن هذه المنافع:

1- التوفيق لإكمال المسلم دعائم دينه؛ فإن الحج ركن من أركان هذا الدين كما هو معلوم.

2- تعود الانقياد والاستلام لأوامر الله عز وجل وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة فيها؛ فأنت أخي الحاج في هذا المكان المخصوص من بين بقاع الأرض كلها، ولأداء هذه العبادة في هذا الوقت المحدد لها، وتطوف بهذا البيت، وتقبل هذا الحجر، وترمي الجمرات .. كل ذلك انقيادا لأمر الله عز وجل بذلك؛ فيهون عليك تنفيذ كل الأحكام الشرعية وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة منها، وتنقاد لكل ما من شأنه أن يعلي هذا الدين وإن لم يظهر لك أنت ما ظهر لغيرك في ذلك.

3- التذكير ببعض الأمور المرحلية التي سيمر بها المرء لا محالة، كالموت والبعث والجزاء فيعد لها العدة اللازمة من زاد ومركب ينجيه من مهالك الطريق ويجنبه عثراته ، وفي الحج صور مصغرة لبعض تلك الأمور المرحلية؛ فأنت بخروجك -أخي الحاج – من بلدك لابسا ثوب الإحرام، وقد سكب الأهل العبرات عند توديعك تتذكر خروجك من بينهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة خروجا لَا لِقاء بعده في هذه الحياة فيهون عليك هذا الخروج الذي ترجو بعده اللقاء والوصال وتعد العدة لذلك السفر كما تعدها لهذا السفر، وأنت بعد في مهلة من أمرك؛ وبوقوفك بصعيد عرفة في هذا الجم الغفير تتذكر موقفك في الحشر حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس ويلجم الناس العرق ويشتد الكرب والخطب فتعد العدة لذلك الموقف أنت ما زلت في مهلة من أمرك. وبانصرافك من عرفة عشية دنو الرب ومغفرته لعباده في هذا اليوم العظيم تتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل وانصرافك من ذلك الموقف إما إلى جنة وإما إلى نار فتنشط لإعداد العدة وأنت بعد في مهلة لإدراك الخلل قبل أن تتمنى الرجوع فلا تمكن من ذلك.

4- غفران الذنوب لمن حج هذا البيت مخلصا لله في حجة متبعا أوامر الله ومجتنبا نواهيه؛ وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))(3).

5- الفوز بالوقوف في صعيد عرفة في ذلك اليوم العظيم والمكان المشهود عشية يدنو الرب جل وعلا فيباهي بأهل ذلك الموقف ملائكته، ويغفر الذنوب ، ويصفح عن الزلات ويحقق الآمال والمطالب، ويعتق الرقاب من النار. أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري يوم بدر، قيل ما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال : أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة))(4)، وقال أبو عمر بن عبد البر : “هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك ، وفيه دليل على الترغيب في الحج ، ومعنى هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة ، وفيه دليل على أن كل من شهد تلك المشاهد يغفر الله له إن شاء(5)”.

6- نفي الفقر والذنوب؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))(6).

7- أن الحج مؤتمر إسلامي كبير فيه يجتمع المسلمون من كل بقاع الأرض لتأدية هذه العبادة العظيمة فتمتلئ بهم الجبال والسهول، وتسيل بهم البطاح والأودية في موكب مهيب هتافهم واحد رغم اختلاف الأجناس والألسنة فالكل يردد: (لبيك اللهم لبيك لبيك …)؛ فتظهر بذلك مقومات وحدة هذه الأمة في تلاحمها وتآزرها وعبادتها ولغتها ، وهي العناصر الأساس التي تحفظ للأمة قوتها وسيادتها وهيبتها بين الأمم.

8- أن الحج موسم دعوي كبير فيه يتوافد المسلمون من كل أقطار الأرض فيجتمعون في أفضل الأيام وأطهر البقاع في جو من الرقة واللين والانكسار بين يدي الله تعالى والاطِّراح ببابه ليغفر الذنوب ويصفح عن الزلات ويحقق الآمال ويقيل العثرات؛ ومؤمن بهذا الحس لا شك أنه على أتم الاستعداد لتحقيق ما يأمره به ربه، وكيف لا وهو إنما بذل المال وتحمل الصعاب من أجل أن يرضى عنه مولاه ويقبله؛ فعلى الدعاة المخلصين أن يغتنموا هذه الفرصة ولا يضيعوها فيعلموا الحاج -قبل أن يرجع إلى موطنه وتكتنفه شياطين والإنس والجن- أن الذي يغفر الذنوب هنا هو الذي يغفرها هناك، وأن المعبود هنا هو المعبود هناك، والذي أمر بالحج هو الذي أمر بالصلاة والزكاة والصوم ونهى عن الربا وكل المحرمات ما ظهر منها وما بطن، وأن الشعور بالأخوة والتلاحم والتراحم هنا أمر مطلوب هناك ..

وقد كان سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم يغتنم هذا الموسم رغم عناد قومه واستكبارهم ومحاربتهم لدعوته وإيذائهم له من أجلها ولم يثنه ذلك عن دعوته والصدع بها ؛ لأنها دعوة أكبر من كل عناد والإيذاء من أجلها منحة وتكريم.

———-

1- انظر تفسير ابن كثير 3/226.

2- الكشاف للزمخشري 3/152-153.

3- صحيح البخاري ح رقم 1521.

4- موطأ الإمام مالك 1/422

5- التمهيد لابن عبد البر 1/91.

6- أخرجه الترمذي في السنن( 3/175 / ح: 810.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>